حق الله تعالى (3)

توحيد العبادة (2)

 

الحمد لله الذي أمرنا بعبادته، وحثنا على طاعته، والابتعاد عن معصيته، وأصلي وأسلم على خيرته من خلقه، وصفوته من أنبيائه ورسله، وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته.

 

 

أما بعد:

أخي المسلم!

لا زلنا نواصل الحديث في بيان حق الله سبحانه وتعالى على عباده، ففي الدرسين السابقين عرفنا أن من حق الله تعالى: توحيده في ألوهيته وعبادته، بمعنى: توحيد الله تعالى في أفعال المخلوقين، وصرفها لله سبحانه وتعالى، دون نِدٍّ أو شريك، وذكرنا أن العبادة ترجع إلى أنواع أربعة، وهي:

 

1 عبادات قلبية مناطها القلب.

2- عبادات قولية تتعلّق باللسان.

3- عبادات عملية تُؤدى بالجوارح.

4- عبادات مالية تتعلّق بالأموال.

 

وذكرنا أمثلة للنوع الأول -إذْ هو أهم الأنواع وأساسها- وهي: المحبة، والخوف، والرجاء.

 

وفي هذا الدرس نذكر -إن شاء الله تعالى- بقية الأمثلة لهذا النوع، وبعض الأمثلة للأنواع الأخرى:

 

فمن أمثلة العبادات القلبية:



الإخلاص، والمقصود به: أن يقصد العبد بعمله وقوله وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، دون طلب لأي أمر من أمور الدنيا، من رياء ونحوه؛ لأن مدار قبول الأعمال على الإخلاص مع المتابعة في العمل للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5]، وقال سبحانه: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ[الزمر: 2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

 

فمن أهم الأعمال القلبية:

 

أن يجرد المرء نيته في جميع أعماله وأقواله لله سبحانه وتعالى، فالإخلاص هو مناط السعادة والشقاوة، والثواب والعقاب، فقد يعمل شخصان عملًا واحدًا في الصورة والشكل، ويكون تعبهما واحدًا، لكن أحدهما يُثاب على فعله، والآخر لا ثواب له، أو يعاقب عليه؛ نظرًا لاختلاف المقاصد، يقول الله جل وعلا: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا[الإسراء: 18 19].

 

ومن الأعمال القلبية: الشكر، وليس المقصود بالشكر: مجرد الشكر باللسان، ولكن الشكر الواجب لله تعالى يكون بالقلب، ويظهر أثره على اللسان والجوارح، فأثره على اللسان بالثناء على الله تعالى والاعتراف بنعمه، وعلى الجوارح بالانقياد والطاعة، قال تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمه، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره».

 

 

أما النوع الثاني من العبادات فهي العبادات القولية:

وهي التي تكون باللسان، سواء صاحبَها عمل أو لم يُصاحِبْها، وهي كثيرة جدًّا، ومنها:

 

 

1- الدعاء: والدعاء قسمان:

القسم الأول:

دعاء ثناء وذكر، وهو: أن يذكر الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى ذكرًا غير مقترن بطلب حاجة أو مسألة، وإنما بقصد مجرد الثناء على الله تعالى بما هو أهله، مثل: (يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام.. اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض وما فيهن...) ونحو ذلك كثير، وهذا النوع من الدعاء عبادة محضة.

 

 

القسم الثاني:

دعاء سؤال وطلب، وهو: أن يسأل العبد ربه تعالى حاجة من حوائج الدنيا أو الآخرة، أو يطلب دفع أذى من أذى الدنيا أو الآخرة، قال تعالى آمرًا بهذا الدعاء: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 55 – 56]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[البقرة: 186].

 

ومن المعلوم أنه لابد أن يصاحب هذا الدعاء شروطُه، كما يشرع الإتيان بسننه وآدابه؛ ليكون مقبولًا عند الله تعالى، ومن ذلك: الإخلاص لله فيه، والتذلل والخضوع والانكسار بين يدي الله جل وعلا، وتطييب المطعم والمشرب، وعدم الاعتداء فيه، والإلحاح في المسألة، وعدم الملل والتضجر أو الاستعجال في طلب الإجابة، وغير ذلك.

 

 

ومن أمثلة العبادات القولية وأهمها:

ذكر الله تعالى، وحقيقته: حضور المذكور في قلب الذاكر على أي صيغة ورد فيها الذكر من الصيغ الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة النبوية، والذكر هو أفضل العبادات، بل هو الغرض المقصود من العبادات كلها؛ فإن العبادات ما شرعت إلا لإقامة ذكر الله تعالى، قال تعالى في شأن الصلاة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]، وقال سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45].

 

والذكر ضده النسيان والغفلة، قال تعالى آمرًا بذكره: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، وقال متوعدًا الناسين الغافلين: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19]، وجاء في الحديث القدسي الصحيح: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإ خير منهم».

 

 

ومن المعلوم أن الذِّكر على قسمين:

مطلق ومقيد، فالمطلق أن يذكر الإنسان ربه غير متقيد بوقت أو مكان أو حال، أما المقيد فهو ما ورد مقيدًا بزمن أو مكان أو حال، مثل: أذكار الصباح والمساء، ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، وغير ذلك مما هو مُفَصَّل في مظانّه.

 

 

أما النوع الثالث فهو: العبادات البدنية:

وهي التي يؤدِّيها المسلم ببدنه، وهي عبادات كثيرة، وأفضلها وأهمها: الصلاة، الركن الثاني من أركان الإسلام، التي أمر الله تعالى بإقامتها، وأوجب المحافظة عليها بشروطها وأركانها وواجباتها، وحذر من تركها أو أدائها خارج أوقاتها.

 

 

ومنها: الصيام، والحج والعمرة:

وما يشتملان عليه من مناسك؛ كالطواف والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق، والتقصير، وسوق الهدي، وغير ذلك، ومنها: الجهاد، وما يقتضيه من بذل الجهد في مقاتلة أعداء الله، وغير ذلك من العبادات التي أُنيطت بالبدن أو بعضو منه.

 

 

والنوع الرابع من العبادات: العبادات المالية:

وهي التي تعَبَّد الله تعالى عباده بها في أموالهم من الصدقات المفروضة والنافلة، والذبائح، والنذور، وغيرها مما تتعلق العبادة فيه بالمال.

 

 

أخي المسلم!

إن العبد المسلم وهو يتذكر هذه العبادات الواجبة ينبغي له أن يعيد الحساب مع نفسه في قيامه بهذه العبادات على الوجه اللائق؛ ليلاقي الله سبحانه وتعالى على ذلكغير مقصر بها أو بشيء منها، ففي محاسبة النفس فرصة عظيمة لتجديد هذا التوحيد العظيم المشتمل على هذه العبادات المتنوعة، وحريٌّ بالمسلم الصادق أن يجدد توحيده وعلاقته مع ربه؛ بتصفية قلبه من الشوائب والعلائق المؤثرة عليه.

 

أسأل الله تعالى أن يقوي إيماننا، ويتقبله منا، وأن يجعلنا من الموفّقين إلى اغتنام الأعمار في ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه سميع مجيب، وهو المستعان.




بحث عن بحث