أمثلة حية للاستقامة (5-11)

4-الإمام الشافعي:

من القدوات العظيمة الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، فهو : مثال حي لطالب العلم والعمل، حيث أمضى حياته كلها من أيام طفولته إلى أن توفاه الله ﻷ يتجول من بلد لآخر يطلب العلم من أفواه العلماء والفقهاء، يسمع ويقرأ ويكتب، وبَلَغَ ما بلغ من العلم والفقه بفضل الله ومنته، ثم بفضل حرص أمه على تعليمه وتربيته، حيث كانت هي أيضاً عابدة فقيهة، يذكر الحافظ ابن حجر : أن فاطمة أم الشافعي تقدمت هي وامرأة مع رجل للشهادة أمام قاضٍ، فأراد القاضي أن يفرّق بين فاطمة والأخرى، لكن فاطمة اعترضت قائلة: ليس لك ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ(1)  فأسقط في يد القاضي، وانصاع لحجتها.

سافر الشافعي : من مولده غزة إلى مكة وهو ابن سنتين، وأرسلته أمه إلى المعلم ولم يكن عندها ما تؤديه للمعلم، يقول الشافعي: «كنت في الكتاب أسمع المعلم يلقّن الصبي الآية فأحفظها أنا... وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل أن آخذ منك شيئاً»، وسرعان ما طلب منه معلمه أن يخلفه إذا قام، وهكذا تحول الشافعي إلى معلم قبل أن يبلغ الحلم، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وقرأ الموطأ للإمام مالك وحفظه وهو ابن عشر سنين، ثم أقام في بطون العرب يأخذ أشعارها ولغاتها وأتقنها، حتى يقول عن نفسه: «فما علمت أنه مرّ بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه، والمراد خلا حرفين«

ثم عاد الشافعي إلى مكة فنصحه بعض مَن تفرَّس فيه الفقه والحكمة بتعلم الفقه والحديث، فجلس إلى أئمة الفقه والحديث، وبلغ مبلغاً قال فيه سفيان بن عيينة: «إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا الغلام«

ولم يكتف الشافعي في هذه المرحلة بعلوم الفقه والحديث والعربية، وإنما اكتسب فن الرمي وركوب الخيل، حتى صار من أحذق الرماة، وأفضل الفوارس امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ(2) .

وبعد أن أذن شيوخ مكة للشافعي بالفتوى لم يقنع الشافعي بما وصل إليه من فقه، فقصد المدينة إلى صاحب الموطأ مالك بن أنس، وأخذ منه الحديث والفقه والاجتهاد، وفتاوى الصحابة والتابعين، وفتاوى مالك، كما أخذ عن كل شيخ من شيوخ الحجاز وجمع علمهم، وبعد عودته إلى مكة اصطحب والي اليمن الشافعي معه، وطار ذكره في أرجاء اليمن، فهنا اتهم بالتحرك مع العلوية، فحمل إلى الرشيد ببغداد مكبلاً بالأغلال، ولكنه خرج بريئاً من التهمة العلوية بالبديهة الحاضرة، والثبات عند الشدائد، وحسن التخلص، والاعتداد بالنفس، فانصرف إلى حلقات العلم، واطلع على مذاهب أهل الرأي، وأنفق على كتب محمد بن الحسن ما معه، ثم وضع إلى جنب كل مسألة حديثاً، وبلغ من العلم مبلغاً اجتمع حوله العلماء والطلاب.

ثم عاد الشافعي إلى مكة مرة أخرى ومعه علم الحديث والفقه معاً، وأعاد النظر في أصول المذاهب وفروعها، واتخذ له حلقة في المسجد، وشهد له الجميع بالتفوق، يقول إسحاق بن راهويه: «كنت مع أحمد بمكة، فقال لي: تعال حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي»، وطلب الحافظ عبد الرحمن بن مهدي من الشافعي أن يضع له كتاباً يجمع مقبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فألَّف الشافعي كتاب الرسالة.

والإمام الشافعي : نصر السنة، وقمع البدعة، حتى شهد له جمع من الفقهاء بقولهم: «ما تركنا بدعتنا حتى رأينا الشافعي»، وفي رحلته الثانية إلى بغداد كان في الجامع الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي، فلما كان يوم الجمعة لم يثبت منها إلا ثلاث حلق أو أربع.

وهكذا كان الشافعي أينما ارتحل نفع الناس بعلمه وفقهه، ويحكي لنا التاريخ أنه كان يجلس في حلقته بالمسجد بعد صلاة الصبح، فيتحلق أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس جاء أهل الحديث، فإذا ارتفعت الشمس قاموا وجاء أهل العربية والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، وعندها ينصرف الشافعي.

لم يكتف الشافعي : بنفع الناس بعلمه وفقهه، بل كان يرابط في الثغور امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله«(3)

فكان الشافعي: صورة حية لطالب العلم، والمحدث، والفقيه، والغازي في سبيل الله؛ فأين طلاب العلم من هؤلاء الأفذاذ القدوات؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [البقرة:282]

(2) [لأنفال:60]

(3) رواه الترمذي في فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله (1639).



بحث عن بحث