مجالات الاستقامة الرئيسة (4-7)

      رابعاً: الاستقامة في الأخلاق:

الإيمان وحُسن الخُلق توأمان، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً»(1). قال ابن رسلان: «(الخُلُق) عبارة عن أوصاف الإنسان التي يُعامِل بها غيره، وهي منقسمة إلى محمودة ومذمومة، فالمحمودة منها صفات الأنبياء والأولياء والصالحين؛ كالصبر عند المكاره، والحلم عند الجفاء، وحمل الأذى، والإحسان للناس، والتودد إليهم، والرحمة بهم، والشفقة عليهم، واللين في القول، ومجانبة المفاسد والشرور وغير ذلك».

قال الحسن البصري: «حقيقة حُسن الخُلُق: بذل المعروف، وكف الأذى، وطلاقة الوجه«(2).

وقال القاضي عياض: «هو مخالطة الناس بالجميل والبِشْر، والتودد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكبر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغِلَظ والغضب والمؤاخذة«(3).

وعن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين! أخبريني بخُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خُلُقه القرآن، أما تقرأ القرآن قول الله ﻷ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4) (5)

ويقول عبد الله بن عمرو ب يصف النبي صلى الله عليه وسلم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً». وفي رواية أخرى: «إن من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقاً«(6).

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في الميزان من حُسن الخلق«(7).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن ليدرك بحُسن خُلُقه درجة الصائم القائم«(8).

»وإنما أُعطي صاحب الخُلُق الحَسَن هذا الفضل العظيم؛ لأن الصائم والمصلي في الليل يجاهدان أنفسهما في مخالفة حظهما، وأما مَن يُحسِّن خُلُقه مع الناس مع تباين طبائعهم وأخلاقهم فكأنه يجاهد نفوساً كثيرة؛ فأدرك ما أدركه الصائم القائم، فاستويا في الدرجة، بل ربما زاد«(9).

هذا فضل الخلق الحسن وأهميته في حياة المسلم، وإذا ألقينا نظرة على العبادات المعروفة وجدناها لا تثمر ثمارها إلا بالتمسك بالخلق الحسن، وترك منكرات الأخلاق، فالعبادات التي يأتي بها العبد المسلم لها أثر بالغ في حالته الأخلاقية، وكل عبادة لها أثر خلقي معين، فبين العبادات المباشرة والأخلاق ترابط جد وثيق، وهاك بعض الأمثلة على ذلك:

1-قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(10).

قال أبو العالية: «إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله. فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه، وقال ابن عون الأنصاري: إذا كنت في صلاة فأنت في معروف، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر«(11).

وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال: «إنه سينهاه ما يقول«(12).

2-الزكاة: هي عبادة مالية، فيها التنزه عن صفة البخل، وفيها شكر نعمة الله تعالى بالمال، وفيها مواساة الفقراء والمساكين، وفي آداب إخراجها معاني سامية من عدم إفساد الصدقة بالمن والأذى، والحرص على كسب الحلال الطيب، وإنفاقه في سبيل الله؛ لأن الله لا يقبل إلا طيباً، والتصدق بأجود وأحب ما عنده، {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(13)، {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}(14).

ويبلغ الأمر منتهاه في الحث على الإنفاق حتى يؤثر المنفق على نفسه، فيصل بها إلى قمة خلق الكرم والجود، وهذا ما وقع من بعض الصحابة رضوان الله عليهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(15)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أيُّ الصدقة أعظم أجراً؟ قال: «أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغِنىَ، ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان«(16).

3-الصوم: هذه العبادة تنهى الصائم عن كثير من سيئات الأخلاق، وتحثه على كثير من مكارم الأخلاق، تنهى عن الهلع والجزع والجشع، والسب والشتم، والمخاصمة، والغيبة والنميمة، والجهل والتعدي على الغير، وتأمره بالصبر والحلم، والصدقة على الفقراء والمساكين ومواساتهم. جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام جُنَّة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امْرُؤ قاتَلَه أو شاتَمَه؛ فليقل: إني صائم. مرتين«(17).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة(18).

4-الحج: قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(19)، فيجب على مَن يقصد الحج أن يتجنب ما يفسد الحج أو ينقص أجره من الرفث وهو الجماع ومقدماته القولية والفعلية، والفسوق وهو جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة؛ لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة، والذي يؤدي هذا النسك مع مراعاة هذه الآداب فجزاؤه المغفرة من الذنوب، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»(20). وهكذا الحج أصبح مصدراً لتهذيب الأخلاق وتزكيتها.

والآيات والأحاديث حافلة بالحث على عموم الخلق الكريم-وقد ذكرنا بعضها- أو على أخلاق خاصة، مثل: الصدق، والحياء، والصبر، وغض البصر، والبُعد عن الفواحش، والتواضع، والجود والكرم.

والمسلم مطالب بالتزام هذه الأخلاق السامية في كل حال، والقدوة في الالتزام بهذه الأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشة قالت: «ما ضرب رسول الله شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهَك شيء من محارم الله فينتقم لله ﻷ»(21). وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: «ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا»(22). وقد سبق معنا حديث عائشة رضي الله عنها: «كان خُلُقه القرآن» عليه الصلاة والسلام.

هذا هو المسلم المستقيم في عقيدته وعبادته، وبتسليمه لأحكام الله، فيجب أن يكون مستقيماً على الخلق الإسلامي الكريم الذي ذُكر جوانب منه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا الحكم إجمالي، ويحتاج إلى تفصيل وتفريع في التطبيقات الواقعية.

(1) رواه أبو داود في (السنة)، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682)، والترمذي في الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، ومن رواية عائشة في الإيمان، باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه (2616)، وأحمد في (باقي مسند المكثرين) (7354، 9756، 10436) ومن رواية عائشة برقم (23684، 24156).

(2)  (عون المعبود شرح سنن أبي داود) شرح الحديث رقم (4682).

 (3) (شرح النووي على صحيح مسلم) شرح الحديث رقم (2321).

(4) [القلم:44]

(5) رواه أحمد في (باقي مسند الأنصار) (24080، 24774، 25285).

(6) رواه البخاري في المناقب، باب صفة النبي غ (3559)، وباب مناقب عبد الله بن مسعود (3760)، وفي الأدب، باب لم يكن النبي غ فاحشاً (6029)، وباب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (6035) ومسلم في الفضائل، باب كثرة حيائه غ (2321).

(7) رواه أبو داود في الأدب، باب في حسن الخلق (4799)، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق (2003)، وأحمد في (مسند القبائل) (26950، 26971، 26984، 27005، 27007).

(8) رواه أبو داود في الأدب، باب في حسن الخلق (4798)، وأحمد في (باقي مسند الأنصار) (24074).

(9) (عون المعبود شرح سنن أبي داود) شرح الحديث (4798).

(10) [العنكبوت: 45]

(12)  (تفسر ابن كثير) سورة العنكبوت، آية: (45).

(13) [آل عمران:92]

(14) [البقرة:267]

(15) [الحشر:9]

(16) رواه أحمد في (باقي مسند المكثرين) (9486).

(17) رواه البخاري في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح (1419)، ومسلم في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الشحيح الصحيح (1032).

(18) رواه البخاري في الصوم، باب فضل الصوم (1894)، وباب هل يقول إني صائم إذا شتم (1904)، ومسلم في الصيام، باب حفظ اللسان الصائم (1151).

(19) [البقرة:197]

رواه البخاري في الصوم، باب أجود ما كان النبي غ (1902)، ومسلم في الفضائل، باب كان النبي غ أجود الناس (2308).

(20) رواه البخاري في الحج، باب فضل الحج المبرور، (1521)، ومسلم في الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1355).

(21) رواه البخاري في المناقب، باب صفة النبي غ (3560)، ومسلم في الفضائل، باب مباعدته غ للآثام (2328).

(22)رواه البخاري في الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (6034)، ومسلم في الفضائل، باب ما سئل رسول الله غ شيئاً قط فقال لا، وكثرة سخائه (2311).



بحث عن بحث