الوقفة الثالثة (3-4)

وعندما نُقَلِّب صفحات سير الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ نرى استقامتهم على الشرع في جميع شؤون حياتهم، وامتثالهم أوامر الشرع في العقيدة والعمل والسلوك في أصعب الظروف وأشد الأحوال، ويتمسكون بالسنن والمستحبات فضلاً عن الفرائض والواجبات؛ لما يؤمنون إيماناً تامًّا بأن الاستقامة على الشرع هو الذي يخرجهم من هذه الظروف الصعبة.

أما تمسكهم بالعقيدة الصحيحة بعد أن هداهم الله إلى الإسلام والتزامهم بها فهو غاية التمسك، فلا يتزعزع إيمانهم وعقيدتهم مهما كانت الظروف والأحوال، فمثلاً عند تعذيب الكفار لهم أشهد التعذيب ترى الثبات والرسوخ، وعدم الزعزعة والخور والفتور، مثل ما حصل لبلال بن رباح ا، فقد كان يخرج به إلى بطحاء مكة إذا حميت الظهيرة، وتوضع عليه الصخرة العظيمة، ويقال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد. وهذا عمار بن ياسر وأبوه وأمه ي -الأسرة الصادقة في إيمانها- يُخرَجون إلى رمضاء مكة يعذبون فيها حتى تقتل أم عمار سمية وهي تأبى إلا الإسلام.

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن مَن قبلنا كان يشق نصفين، ويمشط بمشاط الحديد، ولم يكن يصرفه ذلك عن إسلامه، فعن خَبَّاب ا قال: أتيت النبي غ وهو متوسِّد برْدَةً وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شِدَّةً، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله؟ فقعد وهو مُحْمَرّ وجهه فقال: «لقد كان مَن قبلكم ليُمْشَطُ بِمِشَاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مَفْرِقِ رأسه فيشَق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله«(1).

وفي قصة قتال أبي بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، والعزم على إقامة الدين كله، وعدم التساهل لأدنى تهاون في ذلك؛ عبرة للمسلمين اليوم، الذين يتركون العمل بهذا الشرع المتين لأدنى عذر، وأكذب حيلة، ففي الحديث المتفق عليه: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر مَن كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمِرْت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمَن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»؟ فقال: والله لأقاتلنَّ مَن فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها. قال عمر ا: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق(2).

والصلاة التي هي عماد الدين المثال العملي لشعائر الإسلام التعبدية، بل هو المثال الأول، مَن أدَّاها كما هو مطلوب أدى غيرها من الحقوق، ومَن ضيّعها كان لسواها أضيع، هذه العبادة كان الصحابة أحرص الناس عليها، وألزمهم لها، يقول ابن مسعود رضي الله عنه يبيِّن حالهم مع الصلاة: «مَن سَرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهُدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يُصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف«(3).

وكذا خلق المسلم وسيرته متميزة عن غيره، فالمسلم يلتزم من الأخلاق أحسنها وأفضلها، ولا يتركها ولو حصلت له الدنيا بحذافيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم خير قدوة في ذلك حيث كان خُلُقه القرآن، ومن بعده صحابته الكرام نجدهم ألزم الناس بمكارم الأخلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نرى أحدهم يصدق إذا نفعه الصدق، ويكذب إذا رأى فيه عاجلة النفع، ففي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه عندما تخلف عن غزوة تبوك، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزوة وسأله عن العذر الذي خلّفه عن الخروج للغزوة، فقال بكل صدق: والله يا رسول الله! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، والله لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك». ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامه وكلام صاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، ولما كملت خمسون يوماً جاء من الله الفرج وتاب الله عليهم، فقال كعب حينئذٍ: يا رسول الله! إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت(4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه البخاري في المناقب، باب ما لقي النبي غ وأصحابه (3852).

(2) رواه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة (1400)، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (20).

(3) رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى (645).

(4) رواه البخاري في المغازي، باب حديث كعب بن مالك (4418)، ومسلم في التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (2769).



بحث عن بحث