المقدمة

الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام ديناً، وأمَرَنا بالاستقامة عليه، ونهانا عن الطغيان والمعصية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فالاستقامة «الالتزام» مبدأ سليم، وصفة محببة عند العقلاء، بها يمكن للإنسان التقدم والرقي في ميادين الدنيا والآخرة، وإذا كانت الاستقامة مطلوبة في أمور الدنيا لكيلا تكون النهاية الفشل والخسران، فهي أشد طلباً في أمور الدين؛ إذ القيام بها يعني الفوز بالجنة والنجاة من النار، وأما الخسران فيها فهو الخسران المبين، يقول تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ . فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}(1) .

ومن هنا يجب أن يهتم المسلم بمدار النجاح والخسارة، فيستقيم في جميع أمور الدين-عقيدة وشريعة وأخلاقاً- ولا يكن ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فذلك فِعْل اليهود المغضوب عليهم، وقد زجرهم الله سبحانه على ذلك فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(2) ، كما أن أداء ما أوجبه الشرع على العباد لا بد من أدائهم إياه بكل نشاط وحيوية بدون كسل أو فتور؛ لأن الكسل والفتور من أوصاف المنافقين، فإنهم {إذا وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}(3)، ومن أوصافهم أنهم يقبضون أيديهم في أمور الخير ولا يقدمون عليها.

وتأتي أهمية الاستقامة على الشرع من وجه آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق أنه «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر«(4).

يقول ابن سعدي : في شرح هذا الحديث: «وهذا الحديث يقتضي خبراً وإرشاداً؛ أما الخبر فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل، وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر؛ من قوة المعارضين، وكثرة الفِتن المضلة: فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا، وانهماكهم فيها ظاهراً وباطناً، وضعف الإيمان، وشدة التفرد؛ لقلة المُعين والمُساعد.

ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين، من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدراً.

وأما الإرشاد فإنه إرشاد لأمته أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات، وصبر على دينه وإيمانه -مع هذه المعارضات- فإن له عند الله أعلى الدرجات، وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه؛ فإن المعونة على قدر المؤنة«(5).

وما أشبه زماننا هذا بما وصفه رسول الله غ، وبالتالي ما أحوج أنفسنا أن نعود إلى الصراط المستقيم، ونعتصم بحبل الله المتين، ونتمسك بالكتاب والسنة، ونقدم الشرع على أهوائنا في كل حين وفي جميع الأمور.

فالاستقامة مطلوبة في جميع الشؤون ولاسيما شؤون الآخرة؛ لأن الآخرة حياة أبدية لا موت بعدها، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، فمن دخل الجنة يحيا فيها إلى الأبد، ومن دخل النار -ونعوذ بالله من النار- يهلك فيها إلى الأبد، وقد خسر كل شيء.

وفي هذه الصفحات القليلة نقف مع حديث: «قل آمنت بالله ثم استقم»، لنعرف من خلاله أهمية الاستقامة «الالتزام بشرائع الإسلام كلها» ومجالاتها وآثارها، وواقعنا معها، وما نحن فيه اليوم تجاهها من معوقات ومثبطات، سائلين الله تعالى أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجعلها من المدخرات في الحياة وبعد الممات، ويجعلنا ممن أقام الدين في حياته كلها؛ إنه سميع قريب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتبه

فالح بن محمد بن فالح الصغير

الـمشرف العام على موقع شبكة السنة وعلومها

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [المؤمنون:101- 103]

(2) [البقرة:85]

(3) [النساء:142]

(4) رواه الترمذي في الفتن، باب ما جاء في النهي عن سب الريح (2260)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

(5) «بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار» للشيخ ابن سعدي ص (181).



بحث عن بحث