المبحث الخامس: مسائل علم الأصول والمصطلح

حكمه من حيث الاحتجاج:

لا خلاف بين أهل العلم في أن مرسل الصحابي حكمه الوصل المقتضي للاحتجاج به؛ لكونهم عدولاً لا يقدح فيهم الجهالة بأعيانهم.

يقول ابن الصلاح: «ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول»(1). والله أعلم(2).

من هذا كله نعلم أن رواية ابن عباس رضي الله عنه لهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تقدح في صحة الحديث، حيث إنها من قبيل مرسل الصحابي الذي لا خلاف في قبوله.

المسألة الثانية: قبول خبر الواحد:

استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث قبول خبر الواحد والعمل به.

يقول الإمام النووي:: «وفي هذا الحديث قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به»(3).

ويقول الحافظ ابن حجر :: «وفيه بعث السعاة لأخذ الزكاة، وقبول خبر الواحد»(4).

ويقول الحافظ العيني :: «الأول- يعني من وجوه فوائد الحديث-: فيه قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به، قال صاحب التلويح: وفيه نظر من حيث أن أبا موسى كان معه، فليس خبر واحد على هذا، وعلى قول أبي عمر: كانوا خمسة»

قلت: «في نظره نظر؛ لأنه لا يخرج عن كونه خبر واحد، وقبول خبر الواحد ووَجوب العمل به قول من يعتد به في الإجماع»(5).

وقال الشوكاني :: «وفيه أيضاً دليل على بعث السعاة، وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام، وقبول خبر الواحد، ووجوب العمل به»(6).

ووجه الدلالة من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن وحده، وأمره أن يدعو أولئك القوم، وتقوم عليهم الحجة بذلك. ولمزيد من بسط المسألة لا بد لنا من بيان المراد بخبر الواحد، ثم عرض حكم العمل به في الأحكام والعقائد.

1 ـــ  تعريفه :

خبر الواحد، أو خبر الاتحاد، أو حديث الآحاد، هو الخبر الذي لم يبلغ نقلته مبلغ التواتر.

وقد قسم علماء المصطلح الخبر من حيث وصوله إلينا، قسمين، هما: المتواتر، والآحاد.

وقسموا الآحاد إلى ثلاثة أقسام، هي:

أ- المشهور، من الشهرة، وهي الذيوع والانتشار.

وهو في الاصطلاح: ما رواه ثلاثة فأكثر ما لم يبلغ حد التواتر، في كل طبقة من طبقات السند أو أحدها.

وقد يطلق المشهور على غير المشهور الاصطلاحي، حسب شهرته عند أهل كل فن، كالمشهور عند الفقهاء، أو الأصوليين، أو النحاة وغيرهم، ويطلق- أيضًا- على المشتهر على ألسنة الناس بعامة.

ب- العزيز، وهو من عز يعز إذا قل، أو من عز يعز إذا اشتد وقوي.

وفي الاصطلاح: ما رواه اثنان في كل طبقة من طبقات الإسناد أو أحدهما.

ج- الغريب، وهو من الغربة، وهي البعد عن الأهل والو طن.

وفي الاصطلاح: ما رواه شخص واحد في كل طبقة من طبقات الإسناد أو أحدهما.

وله أقسام عدة مفصلة في كتب المصطلح(7).

2 ـــ حجية خبر الواحد:

لقد اهتم علماء المسلمين بهذا الموضوع منذ القدم؛ نظرًا لما يترتب عليه من خطورة في أمور الحلال والحرام، فممن كتب فيه الشافعي، وابن تيمية، والنووي، وابن القيم، وابن حجر -رحمهم الله- حتى إن البخاري : عقد في صحيحه كتابًا أسماه: «كتاب أخبار الآحاد»، وبابًا أسماه: «باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة، والصوم والفرائض والأحكام»(8).

وخلاصة ما رآه جماهير علماء الأمة: أنه يجب العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول، مستندين في ذلك إلى أدلة كثيرة قولية وعملية، ساق منها الإمام ابن القيم : في مختصر الصواعق المرسلة واحدًا وعشرين دليلاً.

ولم يخالف في ذلك إلا بعض الفرق الضالة، كالمعتزلة والقدرية والرافضة مستندين على أن خبر الواحد لا يفيد في أصله إلا الظن، والظن لا يجوز العمل به، ولا يغني من الحق شيئًا، وقد ذمَّ الله- سبحانه وتعالى- الظن في مواضع كثيرة، غير أن هذه الشبهة لا تعدو أن تكون شبهة واهية؛ إذ الظن المذموم هو ظن السوء، أو الظن القائم على غير دليل، أضف إلى ذلك الأدلة الكثيرة القولية والعملية، والتي فصلها الأئمة في كتبهم.

ويبقى أن أشير في خاتمة هذا المبحث: أنه كما قَبِلَ جمهور علماء المسلمين العمل بخبر الواحد في الأمور العملية قبلوه في قضايا الاعتقاد(9). والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ينظر: مقدمة ابن الصلاح (50، 51).

(2) ينظر في مبحث المرسل ما يلي: مقدمة ابن الصلاح (47- 51)، وفتح المغيث شرح ألفية الحديث (1/ 128- 154)، والباعث الحثيث (47- 49)، وتدريب الراوي (1/ 159- 206)، وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار (1/283- 323). وانظر: كتاب جامع التحصيل في أحكام المراسيل، العلائي.

(3) شرح النووي (1/ 196).

(4) فتح الباري (3/ 360

(5) عمدة القاري (8/ 236).

(6) نيل الأوطار (4/ 131).

(7) ينظر في مبحث تعريف الآحاد وأقسامه ما يلي:

        علوم الحديث، لابن الصلاح (240،243)، والباعث الحثيث (165، 167)، وتدريب الراوي (2/ 173،180- 187).

(8) ينظر: الفتح (13/ 231).

(9) ينظر للتفصيل في خبر الواحد: الرسالة، للإمام الشافعي (369-387)، والإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (1/107) فما بعد، ومختصر الصواعق المرسلة (2/ 359- 446)، وعلوم الحديث، لابن الصلاح (24)، وتدريب الراوي (1/ 131- 135)، والباعث الحثيث (35-37)، وفتح المغيث (1/ 50-57)، وتوضيح الأفكار (1/ 121- 131).



بحث عن بحث