الوقفة الحادية عشرة: فترة الوحي

ثُمَّ كَانَ مِنْ مُقَدِّمَات تَأْسِيس النُّبُوَّة: فَتْرَة الْوَحْي لِيَتَدَرَّج فِيهِ وَيمرن عَلَيْه, فَشَقَّ عَلَيْهِ فُتُورُهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ خُوطِبَ عَنْ اللَّه بَعْد أَنَّك رَسُول مِنْ اللَّه وَمَبْعُوث إِلَى عِبَاده, فَأَشْفَقَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ أَمْر بُدِئَ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَرِد اِسْتِفْهَامه فَحَزِنَ لِذَلِكَ, حَتَّى تَدَرَّجَ عَلَى اِحْتِمَال أَعْبَاء النُّبُوَّة، وَالصَّبْر عَلَى ثِقَلِ مَا يَرِد عَلَيْهِ فَتَحَ اللَّه لَهُ مِنْ أَمْره بِمَا فَتَحَ.

قَالَ: وَمِثَال مَا وَقَعَ لَهُ فِي أَوَّل مَا خُوطِبَ وَلَمْ يَتَحَقَّق الْحَال عَلَى جَلِيَّتهَا مَثَل رَجُل سَمِعَ آخَر يَقُول: (الْحَمْد لِله) فَلَمْ يَتَحَقَّق أَنَّهُ يَقْرَأ، حَتَّى إِذَا وَصَلَهَا بِمَا بَعْدهَا مِنْ الآيَات تَحَقَّقَ أَنَّهُ يَقْرَأ, وَكَذَا لَوْ سَمِعَ قَائِلا يَقُول: (خَلَتْ الدِّيَار) لَمْ يَتَحَقَّق أَنَّهُ يُنْشِد شِعْرًا حَتَّى يَقُول (مَحَلّهَا وَمَقَامهَا)» اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.

ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَة فِي ذِكْره صلى الله عليه وسلم مَا اِتَّفَقَ لَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّة: أَنْ يَكُون سَبَبًا فِي اِنْتِشَار خَبَره فِي بِطَانَته، وَمَنْ يَسْتَمِع لِقَوْلِهِ، وَيُصْغِي إِلَيْهِ, وَطَرِيقًا فِي مَعْرِفَتهمْ مُبَايَنَة مَنْ سِوَاهُ فِي أَحْوَاله لِيُنَبِّهُوا عَلَى مَحَلّه.

قَالَ: «وَأَمَّا إِرَادَته إِلْقَاء نَفْسه مِنْ رُءُوس الْجِبَال بَعْدَمَا نُبِّئَ، فَلِضَعْفِ قُوَّته عَنْ تَحَمُّل مَا حَمَلَهُ مِنْ أَعْبَاء النُّبُوَّة, وَخَوْفًا مِمَّا يَحْصُل لَهُ مِنْ الْقِيَام بِهَا مِنْ مُبَايَنَة الْخَلْق جَمِيعًا, كَمَا يَطْلُب الرَّجُل الرَّاحَة مِنْ غَمٍّ يَنَالهُ فِي الْعَاجِل بِمَا يَكُون فِيهِ زَوَاله عَنْهُ، وَلَوْ أَفْضَى إِلَى إِهْلاك نَفْسه عَاجِلا, حَتَّى إِذَا تَفَكَّرَ فِيمَا فِيهِ صَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْعُقْبَى الْمَحْمُودَةِ صَبَرَ وَاسْتَقَرَّتْ نَفْسه«.

ج – وفي ذلك أيضًا رد على بعض الكفار والمستشرقين من الذين يريدون التشكيك في الوحي أنه من حديث النفس، أو أن هذه أفكار جاءت من عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لو كان الأمر كذلك لما فترت هذه العبقرية واستمرت تنتج، ولم يكن يحتاج في بعض المواقف أن ينتظر الوحي من الله يرشده في ذلك، كما حدث ذلك مرارًا عندما سئل عن أصحاب الكهف، وذي القرنين، وعن الروح، وغير ذلك، بل أجابهم فورًا لو كان هذا الأمر من نتاج عبقريته.



بحث عن بحث