الوقفة الحادية عشرة: فترة الوحي

ذكر المحدثون أن مدة فترة الوحي بعد نزول الآيات الأول من سورة العلق إلى أن نزلت أوائل سورة المدثر أنها ثلاث سنين، وبعد ذلك ازداد نزول الوحي وتتابع، قد يسأل سائل: ما الحكمة من فتور الوحي؟ ولماذا لم يتتابع نزوله من أول الأمر؟ فيقول العلامة الحافظ ابن حجر :: «وكان ذلك -يعني الفتور- ليذهب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلموجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود»، أي: عود الوحي مرة أخرى، وفي كتاب التعبير من البخاري: «وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ

وفي هذا فوائد منها:

أ- استخدام أسلوب التشويق ووسائله في مجال الدعوة والتعليم وفي الوعظ والإرشاد، فكل أسلوب ووسيلة تجلب الانتباه والتشويق فهو مطلوب، ومن ذلك إخبار بعض الحديث المفيد وترك بعضه حتى يشتاق المستمع إليه، ويسأل عنه، كما فُعل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ بدأ نزول الوحي ثم مر عليه زمن لم ينزل عليه الوحي، فاشتاق إليه، ولما اشتد عليه تأخر نزول الوحي ذهب ليلقي بنفسه من فوق الجبل، ولما استأنف نزول الوحي كان أشد مبادرة إلى تنفيذ ما أوحي إليه، فبلَّغ وأنذر، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.. وهذا الأسلوب نجد النبي صلى الله عليه وسلم يستخدمه مع أصحابه؛ فعن أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: «مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُصَلِّي، فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُل اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(1) ؟ ثُمَّ قَالَ: أَلا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ؟ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ«.

ب- التدرج في التعليم والدعوة، وهو ظاهر في كونه نبئ في أول الأمر بـ(اقرأ)، ثم فتر الوحي حتى يسكن فؤاده، وتطمئن نفسه، ويشتاق إلى نزول الوحي؛ فحينئذ أرسل بأوائل سورة المدثر، وقد نقل ابن حجر في هذا الصدد عن الإسماعيلي وذكر بعض الشبهات وردّ عليها، فقال: «قَالَ الإِسْمَاعِيلِيّ: مَوَّهَ بَعْض الطَّاعِنِينَ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ: كَيْف يَجُوز لِلنَّبِيِّ أَنْ يَرْتَاب فِي نُبُوَّته حَتَّى يَرْجِع إِلَى وَرَقَة وَيَشْكُو لِخَدِيجَةَ مَا يَخْشَاهُ, وَحَتَّى يُوفِيَ بِذِرْوَةِ جَبَل لِيُلْقِيَ مِنْهَا نَفْسه عَلَى مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مَعْمَر؟ قَالَ: وَلَئِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَاب مَعَ مُعَايَنَة النَّازِل عَلَيْهِ مِنْ رَبّه فَكَيْف يُنْكَر عَلَى مَنْ اِرْتَابَ فِيمَا جَاءَهُ بِهِ مَعَ عَدَم الْمُعَايَنَة؟ قَالَ: وَالْجَوَاب: أَنَّ عَادَة اللَّه جَرَتْ بِأَنَّ الأَمْر الْجَلِيل إِذَا قُضِيَ بِإِيصَالِهِ إِلَى الْخَلْق أَنْ يَقْدَمهُ تَرْشِيح وَتَأْسِيس، فَكَانَ مَا يَرَاهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الرُّؤْيَا الصَّادِقَة، وَمَحَبَّة الْخَلْوَة، وَالتَّعَبُّد مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَمَّا فَجِئَهُ الْمَلَك فَجِئَهُ بَغْتَة أَمْرٌ خَالَفَ الْعَادَة وَالْمَأْلُوف، فَنَفَرَ طَبْعُهُ الْبَشَرِيُّ مِنْهُ، وَهَالَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَمَكَّن مِن التَّأَمُّل فِي تِلْكَ الْحَال؛ لأَنَّ النُّبُوَّة لا تُزِيل طِبَاع الْبَشَرِيَّة كُلّهَا, فَلا يُتَعَجَّب أَنْ يَجْزَع مِمَّا لَمْ يَأْلَفهُ، وَيَنْفِر طَبْعه مِنْهُ، حَتَّى إِذَا تَدَرَّجَ عَلَيْهِ وَأَلِفَهُ اِسْتَمَرَّ عَلَيْهِ, فَلِذَلِكَ رَجَعَ إِلَى أَهْله الَّتِي أَلِفَ تَأْنِيسهَا لَهُ، فَأَعْلَمَهَا بِمَا وَقَعَ لَهُ، فَهَوَّنَتْ عَلَيْهِ خَشْيَته بِمَا عَرَفَتْهُ مِنْ أَخْلاقه الْكَرِيمَة، وَطَرِيقَته الْحَسَنَة , فَأَرَادَتْ الاسْتِظْهَار بِمَسِيرِهَا بِهِ إِلَى وَرَقَة لِمَعْرِفَتِهَا بِصِدْقِهِ وَمَعْرِفَته وَقِرَاءَته الْكُتُبَ الْقَدِيمَة, فَلَمَّا سَمِعَ كَلامَهُ أَيْقَنَ بِالْحَقِّ، وَاعْتَرَفَ بِه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنفال:24



بحث عن بحث