الوقفة الثانية: خلوة النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء

قالت عائشة رضي الله عنها: «ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاء، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاء يَتَحَنَّث فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّد اللَّيَالِي ذوات الْعَدَد- قَبْلَ أَنْ يَنزِع إِلَى أَهْله وَيَتَزَوَّد لذلك، ثُمَّ يَرْجِع إِلَى خَدِيجَة ل فَيَتَزَوَّد لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءهُ الْحَقّ وهو في غار حراء«.

قال ابن إسحاق: «وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده«(1)

والْخَلْوَة شَأْن الصَّالِحِينَ, وَعِبَاد اللَّه الْعَارِفِينَ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ :: «حُبِّبَت الْعُزْلَة إِلَيْهِ غ لأَنَّ مَعَهَا فَرَاغ الْقَلْب, وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّر, وَبِهَا يَنْقَطِع عَنْ مَأْلُوفَات الْبَشَر, وَيَتَخَشَّع قَلْبه. وَاَللَّه أَعْلَم«.

أما مدة هذه الخلوة بغار حراء للتعبد فقد اختلفت فيها الأقوال، والراجح أنه شهر من كل سنة، وهذا الشهر كان رمضان، وكان يُطعم من جاءه من المساكين، وإذا انصرف كان يبدأ بطواف الكعبة قبل أن يدخل بيته.

والتحنث التعبد كما في الحديث، وَأَصْل الْحِنْث الإِثْم، فَمَعْنَى يَتَحَنَّث يَتَجَنَّب الْحِنْث, فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَع نَفْسه مِن الْحِنْث، وَمِثْل يَتَحَنَّث يَتَحَرَّج وَيَتَأَثَّم، أَيْ: يَتَجَنَّب الْحَرَج وَالإِثْم.

واختلفوا في نوعية التحنث: هل هو تعبد السابقين، أم مجرد خروج للخلاء للتفكير في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، والخلوة مع النفس، والتفكير في هذه الحياة؟ ولم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح.

وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(2): «وأهل الأصول على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا مؤمنين قبل الوحي، وكان النبي غ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم، ولم يتبين له شرائع دينه«(3)

ولكن لا شك أن هذه الخلوة والعزلة التي ينعزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ويخرج فيها للخلاء في غار حراء كانت من تدبير الله سبحانه وتعالى لما ينتظره من أمر عظيم؛ ليتدبر في حال هذا الكون، وليتدبر في خالق هذا الكون، ولينقطع عن مشكلات الناس، ويبتعد عن أعمالهم المنكرة، وأفعالهم القبيحة؛ لتصفو نفسه من أكدارها، ولتبتعد نفسه عن ضجيج الدنيا ومشكلاتها.

من هنا ينبغي لكل مسلم وللدعاة خاصة أن يستلهموا العبرة والعظة من خلوته صلى الله عليه وسلم؛ ليجعلوا لأنفسهم ساعات بين الحين والآخر يخلو فيها الإنسان مع نفسه ليحاسبها، وليراقب الله سبحانه وتعالى، وليعرض أعماله من خير أو شر.. يخلو أيضًا مع نفسه ليتفكر في مظاهر الكون.. ليتفكر فيما خلقه الله سبحانه وتعالى.. ليتفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، كل ذلك ليقرب من الله عز وجل.

والخروج إلى أرض فضاء أو الصحراء للتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي خلق الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار، يشعر بعظمة الله وحكمته ورفقه بعباده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البادية لذلك، فعن شُرَيْحٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَن الْبَدَاوَةِ؟ فَقَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْدُو إِلَى هَذِهِ التِّلاعِ، وَإِنَّهُ أَرَادَ الْبَدَاوَةَ مَرَّةً، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ نَاقَةً مُحَرَّمَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ! ارْفُقِي فَإِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاّ زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلاّ شَانَهُ«(4)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سيرة ابن هشام (1/276).

(2) [الشورى:52]

(3) تفسير البغوي (7/201).

(4) رواه أبو داود في الجهاد، باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو (2478). الْبَدَاوَة: أَيْ الْخُرُوج إِلَى الْبَدْو وَالْمُقَام بِهِ. يَبْدُو: أَيْ يَخْرُج إِلَى الْبَادِيَة لِحُصُولِ الْخَلْوَة وَغَيْره. التِّلاع: مَجَارِي الْمَاء مِنْ أَعْلَى الأَرْض إِلَى بُطُون الأَوْدِيَة.



بحث عن بحث