الوقفة السادسة: الإيمان بالقدر

3-عدم التأسف على الماضي، فعليه الاستسلام لقضاء الله، والصبر على ذلك، وحبس النفس من التسخُط والجزع، فيحبس لسانه عن الشكوى، وجوارحه عن المعصية، وقلبه عن التسخط على المقدور، فلمثل هؤلاء البشارة من الله:{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(1).

هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم عقبى الدار، والأجر بغير حساب، قال تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(2). وقال سبحانه:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }(3).

وليعلم العبد أن الصبر عند نزول المصيبة، وحبس اللسان عن الشكوى، وعدم التسلط، هو أدنى منزلة، وهو الواجب على العبد، وفوق ذلك منزلة الرضا بالقضاء، ولذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «وأسألك الرضا بعد القضا»(4). والرضا لا يعود نفعه إلا على العبد، وأما التسخط فضرره يعود عليه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ عِظَمَ الجَزَاء مَعَ عِظَمِ البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهُم، فمَن رضي فله الرِّضا، ومَن سخط فله السَّخَط»(5). فالذي يرضى بقضاء الله وقدره يحصل على فائدتين: الأجر الكثير، والمنزلة العظيمة عند الله، والبُعد عن التسخط.

وهناك منزلة فوق منزلة الرضا، وهي منزلة الشكر على المصيبة، لما يرى العبد ببصيرته من العواقب الحسنة، ولما يعلم أن الله يبتلي كل عبد بحسب قوة إيمانه، فالأنبياء أشد الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثل، فالمؤمن القوي إذا ابتلي شكر الله على ذلك؛ حيث اختاره ليعظم أجره ومثوبته، ويرفع درجته، فحينئذٍ تنقلب المحنة منحة.

أخي المسلم! إن هذا المعلم، وهو الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر على المقدور يعود بمنافع عظيمة، من أهمها:

1-إظهار عبودية الله تعالى في السرَّاء والضرَّاء: وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأمْرِ المُؤْمنِ إن اْمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إلا لِلْمُؤْمن؛ إنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ»(6).

ومن صفات هذه الأمة: أنهم حمادون يحمدون الله في السراء والضراء(7)، كما أنهم{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(8)، فعبوديتهم لله دائمة في المنشط والمكره، وفي الصحة والمرض، وفي السراء والضراء، وليس المؤمن {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}(9)، ولا هو مَن إذا أنعم الله عليه {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}(10).

2-تكفير الذنوب والسيئات: فالمصائب والأمراض والهم والغم والحزن وضيق الحال كلها تكفر الذنوب والسيئات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»(11). وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ البَلاَءُ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ»(12).

3-رفعة الدرجات: ففي صحيح مسلم عن الأسوَدِ قال: دَخَلَ شَبَابٌ من قريشٍ على عائشة وهي بمِنىً وهم يضحكون، فقالت: ما يُضْحِكُكُم؟ قالوا: فُلان خَرَّ عَلَى طُنُبِ فُسْطَاطٍ فَكَادَتْ عُنُقُهُ أو عَيْنُهُ أن تَذْهَبَ، فقالت: لا تَضْحَكُوا؛ فَإِنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ مُسلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَها إلا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئةٌ»(13).

4-أنه سبب دخول الجنة: فعن أبي هريرة رَفَعَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ الله عزَّ وجلَّ: مَنْ أذْهَبْتُ حَبيبَتَيْهِ فَصَبرَ واحْتَسَبَ لَمْ أرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الجنَّة»(14). وفي حديث آخر عَنْه: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لعَبدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلاَّ الجَنَّةَ»(15).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [البقرة:155-157]

(2) [الزمر:10]

(3) [الرعد:22 – 24]

(4) رواه النسائي في السهو، باب نوع آخر من الدعاء، رقم: (1306، 1307).

(5) رواه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم: (2396)، وابن ماجه في الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4031).

(6) رواه مسلم في الزهد، باب المؤمن أمره كله خير، رقم: (2999).

(7) [آل عمران: 134]

(8) [الحج:11]

(9) [فصلت: 51]

(10) كما في حديث رواه الدارمي في المقدمة، باب صفة النبي غ في الكتب قبل مبعثه، رقم: (7).

(11) رواه البخاري في المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، رقم: (5641، 5642)، ومسلم في البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها، رقم: (2573).

(12) رواه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم: (2399)، وأحمد في (باقي مسند المكثرين)، رقم: (7799، 27219).

(13) رواه مسلم في البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها، رقم:(2572).

(14) رواه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في ذهاب البصر، رقم: (2400)، وأحمد في باقي مسند المكثرين، رقم: (7543)، والدارمي في الرقاق، باب فيمن ذهب بصره فصبر، رقم: (2795).

(15)  رواه البخاري في الرقاق، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى، رقم: (6424).



بحث عن بحث