الوقفة الثالثة: وفي كل خير

يربي هذا الدين في النفوس حب الآخرين، واحترامهم، وتقدير أعمالهم، والثناء عليهم إذا عملوا عملًا جيدًا، فلا نحتقرهم، أو نغض الطرف عن حقوقهم، وفوق ذلك أننا إذا وجدنا عند أحد أدنى شيء من الخير نقدر هذا الخير ونستثمره، وهو ظاهر في هذا الحديث، حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة الإيمان وضعفه في أفراد الأمة، ثم بيَّن أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولكن لم ينف عن المؤمن الضعيف الخيرية نفيًا كليًّا، بل قال: «وفي كل خير»

قال النووي: معناه: «في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات».

فالخيرية موجودة في كل أفراد الأمَّة، والذي يحتقر الآخرين لأنه قوي، لم يعرف حق المعرفة مفهوم هذا الحديث، بل إن احتقاره الآخرين يكون بسبب تكبُّره وتعاليه عليهم، والكبر لا يليق بالمؤمن؛ لأنه يحرمه دخول الجنة، ففي حديث مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَدْخُلُ الجَنة مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ». قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قال: «إنَّ الله جميل يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»(1).

وكما يعلمنا الإسلام أن نثني على مَن يستحق الثناء، ونشكر لمن أحسن إلينا، وإذا وجدنا أدنى خير عند أحد نحثه على الاستكثار من هذا الخير، ونوصيه على الاستمرار فيه، وإذا وجدنا الزلل أو الخطأ عند البعض نصلحه دون أن نجرح مشاعره.

ففي حديث رواه ابن ماجه وأحمد عَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأبي بَكْر: «أَي حِين توتر؟ قَالَ: أول اللَّيْل بعد الْعَتَمَة. قَالَ: فَأَنت يَا عمر؟ قَالَ: آخر اللَّيْل. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: أما أنت يَا أَبَا بكر فَأخذت بالوثقى، وَأما أَنْت يَا عمر فَأخذت بِالْقُوَّةِ»(2).

في هذا الحديث أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لأن كلًا منهما عمل بما يستحق الثناء والمدح.

ولننظر كذلك إلى توجيه لطيف من رسوله الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لمَّا قصَّ عليه ما رآه في الليل من الرؤيا، فعَنْ سَالِمٍ عَنْ أبيهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَتَمَنَّيْتُ أنْ أَرَى رُؤْيَا فَأقصَّهَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ غُلامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بي إلَى النَّار، فَإِذَا هِيَ مَطْوَيَّةٌ كَطَى الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أنَاسٌ قدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أقُولُ: أعُوذُ باللهِ مِن النَّار، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ(3). فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ الله لَوْ كَانَ يُصَلّي مِن اللَّيْلِ». فَكَانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِن اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا(4).

وهكذا يكون التوجيه، وهكذا يكون الإصلاح، لا يكون بالتعنيف ولا بالتجريح، بل بكلمة طيبة، وتوجيه لطيف، وقول حسن، فالرجل إذا رأى في نفسه خيرًا فليحمد الله، وليزدد من طاعته، ويحمد الله على توفيقه للخير، ولا يكون ذلك ذريعة لاحتقار من دونه، جاء في الحديث أن أحدًا ممن يرى في نفسه خيرًا، وكان أحد معارفه لم يكن مستقيما فقال: لا يغفر الله له. فغفر الله له، وجعل هذا العابد في النار، فعن جُنْدَبِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ «أنَّ رَجُلا قَالَ: وَاللهِ لا يَغْفِرُ الله لِفُلانٍ، وَإنَّ الله تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ؛ فَإنّي قَد غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وَأحْبَطْتُ عَمَلَكَ»، أوْ كَمَا قَال(5).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم: (91) وبطر الحق: أي دفعه، وغمط الناس: هو احتقارهم.

(2) رواه ابن ماجه في إقامة الصلوات، باب ما جاء في الوتر أول الليل، رقم: (1202).

(3) لم تُرَع، أي: لم تخف.

(4) رواه البخاري في التهجد، باب فضل قيام الليل، رقم: (1121، 1122)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل [عبدالله] بن عمر ب، رقم: (2479).

(5) رواه مسلم في البر والصلة، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى، رقم: (2621).



بحث عن بحث