شهر رمضان ( 1 – 6 )

حكمة الصوم :

لا نعتقد أنه بوسعنا ولا بوسع بشر، مهما أوتي من علم، ورزق من حكمة أن يحيط علما بأسرار الله التي تضمنتها العبادات التي شرعها. والشعائر التي وضعها، ولولا أن الله -بمنه وكرمه- أوضح من ذلك جوانب، وأشار إلى أخرى، إيناسا للنفوس وجذبا للقلوب، ما كان لبشر أن يخوض في ذلك أو يتكلم فيه والتسليم معيار الإيمان، وميزان الإخلاص ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 51-52 [.

وهذا الركن الذي نحن بصدد الحديث عنه وهو: الصيام له آثاره البعيدة المدى على النفوس، وله فوائده المحققة على المجتمع، في كافة جوانبه وأحواله، قال تعالى مبينا هذه الحكمة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة: 183 ].

ويقول عليه الصلاة والسلام:"الصيام جنة" ، وقد أمر عليه الصلاة والسلام، من اشتدت عليه شهوة النكاح- ولا قدرة له عليه- بالصيام.

إن الفضائل النفسية، والفوائد الاجتماعية التي يثمرها الصوم أجل من أن تحصى، وإذا كان الصوم يثمر التقوى، وعفة النفس واستقامة الجوارح ويقظة الضمير، ورحمة القلب، وخشية الرب، فإن هذه الفضائل، تنعكس على المجتمع كله، وتنشر بركتها عليه.

والتقوى التي جعلها الله غاية للصيام، والجُنَّة التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم الصوم يمكن أن يندرج تحتها كل ما أدركنا، وما لم ندرِك من حكم الصيام، فليس للتقوى حد تنتهي عنده، أو غاية تنتهي إليها، وكذلك الجُنّة، قد تكون من التقصير والمخالفات، وقد يرقى بها صاحبها، فتكون من الشبهات، وقد يزداد رقيا فتصبح جُنَّة من الغفلات والخطرات.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

"لما كان صلاح القلب واستقامته، على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا على جمعيته على الله، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالفة الأنام وفضول الكلام، وفضول المنام مما يزيده شعثا ويشتته في كل واد يقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعرقله، اقتضت رحمة العزيز العليم بعباده أن شرع لهم من الصوم، ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة(1).

________

(1) زاد المعاد ( 1/ 168 ).



بحث عن بحث