القاعدة الثانية عشرة: التيسير (1-2)

مدخـل:

ومن أهم القواعد التربوية التي كان ينتهجها النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة هي مبدأ التيسير على الناس في التكاليف الشرعية، وهو مبدأ عظيم فيه الرحمة والشفقة مقارنة لما كان عليه حال القرون الأولى قبل الإسلام، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

فقد بيّن الله تعالى هذا المبدأ في مواطن كثيرة في كتابه المبين، كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(2)، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(3)، وقوله جل وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ}(4).

وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام مثالاً عمليًا لهذا المبدأ العظيم، حتى إنه عليه الصلاة لم يخيّر بين أمرين إلا اختار أيسرها كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

وإنْ نابَ أمرٌ لم يقوموا بحملهِ *** فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يَتَشَدّدُ

وقد ربّى عليه الصلاة والسلام الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النمط الرفيع من التربية من خلال مجموعة من الأحداث والمواقف، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في التعامل اليومي مع الأهل في البيت ومع المجتمع خارج البيت.

وفيما يلي بعض مظاهر التيسير التي علّمها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة والأمة من بعدهم:

 

أولاً: التيسير في التعامل مع الناس:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم الصحابة دائمًا فقه التيسير والتعامل مع الأحكام بمرونة وسهولة، لأن التيسير على الناس يريحهم ويحبب الدعوة إليهم، وأما التشدد والقسوة والفظاظة فإنها تنفّر الناس وتمنع من حسن الاستماع والإنصات، ويشهد على ذلك كثير من المواقف والأحداث، وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتصرف بحكمة عظيمة حين كان يسامح ويسهل، ومن هذه المواقف قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فقام الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثني معنِّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلّمًا ميسِّرًا»(5). ويقول عليه الصلاة والسلام أيضًا: «وخالق الناس بخُلق حسن»(6)، وتعددت الأحاديث في هذا التأصيل العظيم وواقع حياته تحكيه عائشة ك أنه ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

 

ثانيًا: التيسير في العبادات والطاعات:

لقد يسّر الله تعالى على عباده كثيرًا من العبادات، وخفف عنهم بعض الفروض في أحوال خاصة وظروف معينة، كما في حال المريض أو المسافر، حيث رخّص له بالإفطار في رمضان، ليقضيه بعد زوال السبب من سفر أو مرض، فقال جل وعلا: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(7). وكذلك أجاز التيمم في الوضوء عند فقدان الماء أو تعذر استعماله، فقال جلا وعلا: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(8).

ومن هنا جاء الهدي النبوي مكملاً لكتاب الله تعالى في إقرار التيسير في العبادات، والنهي عن المشقة التي تضر بالإنسان وتلحق به الأذى، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها قال: «مهْ عليكم بما تطيقون فوالله لا يَمَلُّ الله حتى تَملو" وكان أحب الدِّين إليه ما داوم صاحبه عليه»(9).

 

ثالثًا: التيسير على الذي يتعسر عليه قراءة القرآن:

عن عبدالله بن أبي أوفى قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال: «قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي قال قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال هكذا بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد ملأ يده من الخير»(10).

هذا بالنسبة إلى الذين يستعصي عليه الأمر ولا يتمكن البتة من قراءة القرآن، أما الذي عنده المقدرة على قراءته فلا بد أن يتعلم قراءة الفاتحة.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»(11).

 

رابعًا: التيسير على من يقع في محظور:

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع مثال في هذا الجانب من التربية وهو التخفيف على من يقع في محظور أو مخالفة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: أين السائل فقال: أنا، قال: خذها فتصدَّق به فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك»(12).

وتبيّن هذه القصة الرحمة المهداة التي أرسلها الله تعالى إلى عباده من خلال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يشق عليهم أبدًا، ولم يحمّلهم ما لا يطيقون، بل كان التسهيل والتيسير صفة ملازمة له عليه الصلاة والسلام في أقواله وأفعاله مع الناس.

ولهذا الأسلوب أثر عظيم في اكتساب القلوب واجتذابها إلى ما يدعو إليه الداعية أو المربي أو المعلم، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يسّر عليه وعامله برفق ولين: "اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا" فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد حجرت واسعًا»(13).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الأعراف: 157]

(2) [الحج: 78]

(3) [البقرة: 185]

(4) [النساء: 28]

(5) أخرجه مسلم (2: 1104 رقم 1478)

(6) سبق تخريجه

(7) [البقرة: 184]

(8) [المائدة: 6]

(9) أخرجه البخاري (1: 47 رقم 43)

(10) أخرجه أبو داود (1: 308 رقم 832)

(11) أخرجه مسلم (1: 549 رقم 798)

(12) أخرجه البخاري (5: 30 رقم 1936)

(13) سبق تخريجه



بحث عن بحث