القاعدة الحادية عشرة: الرفق واللين (1-2)

مدخـل:

من أهم معالم التربية في الهدي النبوي التي وردت عن النبي ﷺ هو الرفق واللين بالقول والعمل، ولذا، خصصناه بقاعدة مستقلة إذ هو من أعظم الوسائل التي تتحقق بها أهداف التربية، وله آثار إيجابية عظيمة على الفرد نفسه وعلى الفرد المربي أو المؤسسة التربوية، وقد أمر الله تعالى رسوله ﷺ بالرفق واللين، ونهاه عن الشدة والقسوة، فقال جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(1).

وقد أثنى الله تعالى على نبيّه ﷺ بما تحلّى به من الرحمة واللين واللطف مع أهله وصحابته رضوان الله عليهم، فقال جل ثناؤه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(2).

وقال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}(3). وفيما يلي بعض مظاهر التربية النبوية من خلال أسلوب الرفق واللين:

 

أولاً: التأني وعدم التعجل:

وهذا يعني التريث والتأني في جميع المواقف التي يتعرض لها الإنسان وعدم التسرع في الحكم أو الاستعجال في الردّ، لأن العجلة في معظم أحوالها تعطي التشخيص الخطأ للحدث، أو تؤول إلى نتائج غير وخيمة غير مرضية، بينما يكون العكس حين يتريث الإنسان ويصبر على المواقف وتتبين معالم الحدث، فيكون التحليل صحيحًا والنتائج مرضية.

عن معاوية بن الحكم السلمي قال بينا أنا أصلي مع رسول الله ﷺ إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله ﷺ فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني «قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله ﷺ«(4).

يقول الإمام النووي : معلقًا على هذا الحديث: "فيه بيان ما كان عليه رسول الله ﷺ من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته، وشفقته عليه، وفيه التخلّق بخلقه ﷺ في الرفق بالجاهل وحسن تعليمه واللطف به وتقريب الصواب إلى فهمه"(5).

 

ثانيًا: الصفح عن الزلة:

كان عليه الصلاة والسلام متسامحًا في تعامله، يصفح ويعفو عن المخطئين لا سيما الذين هم حديثو عهد بالإسلام، وكان يحثّ صحابته التحلي بهذا الخُلق العظيم ويخبرهم عن الأجر العظيم المنوط به، فيقول: «من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيِّره أي الحور شاء»(6). ويقول أيضًا: «اتق الله حيثما ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن«(7).

وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه«(8).

بل إن عفو النبي ﷺ وصفحه تجاوز حجم الزلة والأخطاء الصغيرة إلى العفو عن المظالم الكبيرة التي وقعت بحقه عليه الصلاة والسلام وحق الصحابة رضوان الله عليهم في مكة من التعذيب والتشريد والحرمان وغيره، وقد قابل أولئك القوم الذين أخرجوهم وعذّبوهم بقوله العظيم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وهو في موضع القوة والتمكين وهم في حالة الضعف والهوان.

وصدق شوقي حين قال:

وإذا عفوتَ فقادرًا، ومقدّرًا *** لا يستهيـن بعفوك الجُهـلاء

 

ثالثًا: ترك اللوم والعتاب:

لم يكن النبي ﷺ من النوع الذي يتابع أخطاء الآخرين والتي تتعلق بصفتهم البشرية، ومحاسبتهم أو عتابهم، ما دام الأمر لا يتعلق بحرمات الله تعالى، يقول أنس رضي الله عنه: قدم رسول الله ﷺ المدينة ليس له خادم، فأخذ أبوطلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن أنسًا غلام كيّس فليخدمك. قال: «فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته لِمَ صنعتَ هذا هكذا ولا لشيء لَمْ أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا«(9).

ولم يكن عليه الصلاة والسلام يستخدم الكلام الجارح أو العتاب الثقيل، يقول أنس بن مالك رضي الله عنهما: «لم يكن النبي ﷺ سبابا ولا فحاشا ولا لعانا كان يقول لأحدنا عند المعتبة ما له ترب جبينه«(10).

 

رابعًا: الرفق في التعليم:

كان عليه الصلاة والسلام رفيقًا بالمتعلم، وحليمًا معه، يخاطبه بأطيب الكلمات ويرشده بأرقى أسلوب، يقول عمر بن أبي سلمة كنت غلامًا في حجر رسول الله ﷺ وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ: «يا غلام سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد«(11).

حيث أثّر هذا الأسلوب اللطيف في نفسية الغلام حتى قال: «فما زالت تلك طعمتي بعد«

وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال بينما نحن في المسجد مع رسول الله ﷺ إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله ﷺ مه مه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله ﷺ دعاه فقال له إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله ﷺ قال فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه« (12).

 

خامسًا: اجتناب الغضب:

ومن مظاهر الرفق التي كان يتحلى بها النبي ﷺ ويعلّمها صحابته، البعد عن الغضب وأسبابه، وتملك النفس والسيطرة عليها في المواقف المثيرة والمنفعلة، يقول عليه الصلاة والسلام: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب«(13).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [آل عمران: 159]

(2) [التوبة: 128]

(3) [المؤمنون: 96]

(4) أخرجه مسلم (1: 381 ، رقم 237)

(5) شرح النووي 5/20.

(6) أخرجه أبو داود (4: 394 رقم 4779)

(7) أخرجه الترمذي(4: 355 رقم 1987)

(8) أخرجه البخاري (6: 3539 رقم 6528)

(9) أخرجه البخاري (7: 165 رقم 2768)

(10) أخرجه البخاري (5: 2243 رقم 5684)

(11) سبق تخريجه

(12) أخرجه مسلم (1: 163 رقم 787)

(13) أخرجه البخاري (3: 1195 رقم 3108)



بحث عن بحث