القاعدة السادسة: فقه الأولويات (3-3)

سابعًا: الأولوية في البر والصلة للوالدين:

إن البرّ والتواصل مع الأرحام من أهم المبادئ والواجبات التي جاء بها الإسلام، ولكن تأتي أولوية البرّ بالوالدين على سائر الأرحام، لقربهما من الإنسان، ولمكانتهما وعظم شأنهما، عند الله وعند العباد، حيث قرن الله تعالى بين التوحيد والإحسان إلى الوالدين في قوله: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}(1).

لذلك كانت لهما الأولوية في البرّ والإحسان على غيرهما من الأقارب والمحارم.

وتتقدم أولوية البرّ بالأم على الوالد، وفق طبيعة الخِلقة التي أنشأ الله الأم عليها، فهي التي تتحمل تعب الحمل والعناية والرعاية بالأطفال، فضلاً عن الحنان المودع في نفسها نحوهم، يقول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}(2).

وفي الصحيح فيما يرويه أبو هريرة ط: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك». قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك». قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك»(3).

ومن أجل ذلك جاءت الوصية بالوالدين كثيرًا في النصوص الشرعية، وحذّرت هذه النصوص من عقوقهما أو الإساءة إليهما، يقول عليه الصلاة والسلام: «رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»(4).

ولذا، جاء التحذير من برّ الصديق وتقديمه على برّ الوالد، أو برّ الزوجة وتقديمها على برّ الوالدة.

 

ثامنًا: الأولوية في منهجية الدعوة والتربية:

يعدّ وضع الأولويات في المنهج الدعوي من أهم أسباب بقائه ونجاحه، حيث يضع الداعية مجموعة من الخطوات المنهجية للقيام بعمله الدعوي حسب أولوياتها، فمن عناصر منهجية الدعوة والتربية مثلاً: توفر الجانب الإيماني، والجانب العلمي، وتحديد الهدف، وتحديد الزمن المناسب لهذا الهدف، ومعرفة الأساليب المستخدمة وغيرها من العناصر، وبالتالي فإن ترتيب هذه العناصر حسب أولويتها مطلب ضروري لنجاح العمل الدعوي، وفق الآتي:

- توفر الجانب الإيماني عند الداعية، فإن الخطوة الأولى للعمل الدعوي أن يكون الداعية مؤمنًا إيمانًا قاطعًا بما يدعو إليه، في مجال العقيدة أو العبادة أو التشريع، أو الأخلاق أو غيرها. فإذا لم يتوفر هذا العنصر في المنهج بداية، فإن العناصر التالية له ستكون عبثًا لا فائدة منها.

- يأتي توفر الرصيد العلمي الشرعي عند الداعية في الدرجة الثانية، لأن الدعوة من غير علم شرعي تنعكس بشكل سلبي على العمل الدعوي نفسه.

– تحديد الهدف والغاية التي يسعى الداعية للوصول إليها، وفق الضوابط الشرعية.

– ثم تأتي الخطوة التالية في تحديد الزمن لإنجاز المهمة الدعوية المنشودة، بحيث يكون هذا الزمن متناسبًا مع حجم العمل الدعوي.

– ثم تحديد الأساليب والوسائل المتبعة في العملية الدعوية، ومدى تأثيرها على سير العمل.

وهكذا، فإن المنهجية الدعوية تحتاج إلى هذا التصور في ترتيب الأولويات، وأي تقديم أو تأخير في ترتيب الأولويات، فإن العملية الدعوية قد تتأخر أو تفشل من دون أن تحقق أهدافها.

 

تاسعًا: الأولوية في الإنكار:

وأما في مجال إنكار المنكر في المجال الدعوي والتربوي، فتكون وفق حجم المنكر وآثاره ومدى حرمته في الشرع، وفق الأمثلة الآتية:

- أولوية إنكار الكبائر قبل إنكار الصغائر، فلا يقدّم الداعية والتربوي إنكار الصغيرة قبل الكبيرة، كالذي ينكر ويشدد على التدخين ويهمل ويتساهل في إنكار ترك الصلاة أو الغيبة أو النميمة أو الربا، أو يضعها في المترتبة التي يليها.

- أولوية إنكار الضرر العام على الضرر الخاص، فلا يقدّم الداعية أو التربوي إنكار شرب الخمر داخل البيت، على إنكار بيعه في المحلات والأسواق، بل يجعل الأولوية في منع بيعها لأن ضررها عام على المجتمع بأسره، بخلاف الذي يشربها منعزلاً في بيته ويضرّ بها نفسه وحدها.

- أولوية إنكار المعصية الجهرية على المعصية السرية، فلا يقدّم الداعية أو التربوي على إنكار المنكر داخل البيوت والتي لا يراها أحد غير أصحابها على المعاصي التي ترتكب أمام الملأ في الشارع أو السوق..

- أولوية إنكار الحرام على المكروه، فلا يترك الداعية أو التربوي، إنكار المحرّمات التي جاءت النصوص الصريحة في حرمتها، على بعض الأمور المختلف فيها أو المكروهة بإجماع العلماء.

    

والخلاصة: فإن فقه الأولويات مطلب ضروري للعاملين في مجال الدعوة والتربية، والذي يعتمد على حجم العلم الشرعي عند الداعية أو المربّي، وما عنده من حصافة وحنكة في ترتيب الأولويات وفق الضوابط الشرعية، والمصلحة العامة للناس والأمة.

وهنا لا بد أن نعي أن كثيرًا من هذا الفقه أمر اجتهادي بمعنى أنه يحتاج إلى إعمال للجهد، واستشارة، وتصور للواقع، وفقه في الشريعة وقواعدها حتى يكون جدول هذه الأولويات متسقًا مع الشريعة والواقع، ومؤديًا لنتائجه المرجوة.

ولابد أن نعي أيضًا أن هذه الأولويات تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، يقرر ذلك فقيه عصره، وعالم زمانه، ويحدد ذلك قواعد الشريعة، وأحوال المجتمع، ومثال ذلك: مجتمع يسود فيه الربا، فيقدم على غيره في الإنكار، ومجتمع تسود فيه الجرائم الجنائية فتقدم على غيرها في الإنكار، ومجتمع تسود فيه الأخطاء الأخلاقية فتقدم في الإنكار.

وكل ذلك مع بقاء الأصل في التربية وهو تقديم العقيدة على غيرها.

كما ينبغي أن نعلم أن كل ما سبق من تقسيم الأولويات ينحصر إجمالاً في أمرين:

1 – جزء في البناء.

2 – وجزء في المعالجات للأخطاء.

وكل جزء له أولوياته التي تحتاج إلى فقه عملي دقيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الإسراء: 23]

(2) [لقمان: 14]

(3) أخرجه البخاري ( 5: 2227 رقم 5626)

(4) أخرجه مسلم (8: 5 رقم6674)



بحث عن بحث