القاعدة الثالثة: المنهج التربوي منهج متكامل (3-4)

السمة الثانية: الكمال:

والمقصود به، أن هذا المنهج الفريد لم ينقص شيئًا من حاجات الفرد، والأسرة، والمجتمع، والأمة، بل جاء النص صريحًا في ذلك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1).

وقد تمثل هذه المنهجية القدوة عليه الصلاة والسلام، فكان الصورة الحية التي يُرى فيها هذا الكمال، بالنسبة لحاجات الفرد من عقلية وروحية وجسمية التي سبق الحديث عنها، وكذلك الأسرة، فكان نعم الزوج ونعم الأب، ونعم الموجّه لأسرته وأبنائه وبناته وأحفاده.

1 - ففي الجانب الأبوي يلاعب الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب ط، فيدلع لسانه للحسن، ويحمله وهو يصلي، وينهاه عن أكل الصدقة ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا تحل لآل محمد»(2)، ويوصي ابن عباس ط عند كان رديفًا له وهو راكب على حمار قائلاً: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك....»(3)، فنجده يأمر وينهى ويوصي ويحث ويلاعب ويداعب عليه الصلاة والسلام، فلم يكن تاركًا الحبل على الغارب، ولا غليظًا أو جافًا، ولا شديدًا معنفًا، بل كان حكيمًا يضع الشيء في موضعه.

2 - وفي جانب الزوجية فيكفي قوله عليه الصلاة والسلام: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»(4)، والخيرية هنا مطلقة، فيدخل فيها: العشرة الطيبة، والتعامل الحسن، والتوجيه والتربية، والتأديب والتعليم، وغيرها، فيسعى عليه الصلاة والسلام لتحقيقها وترجمتها عمليًا.

3 - أما كمال منهجه عليه الصلاة والسلام التربوي في المجتمع والأمة فيتبين من خلال بعض الأمثلة من حياته ﷺ:

ففي التعليم والتربية والتوجيه، فقد رسم عليه الصلاة والسلام قمة التعامل، فذاك الأعرابي الذي دخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام في حلقة مع أصحابه رضوان الله عليهم، فبال في ناحية المسجد، فقام الصحابة ن ليزجروه وينهروه لعلمهم بقبح هذه الصنيع وهو تلويث المسجد بالنجاسة، لكنّ النبي ﷺ نظر من زاوية أخرى أعمق وأشمل وهي المصلحة الكبرى فتعامل بروية ولطف، وقال: «لا تنهروه»، وفي رواية: «لا تزرموه فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، فلما انتهى من بوله قال عليه الصلاة والسلام: «أهريقوا عليه ذنوبًا من ماء»، ثم نادى الأعرابي، فأخبره أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، فأعجب الأعرابي وقال – في إحدى الروايات – «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا»، فقال النبي ﷺ: «لقد حجرت واسعًا»(5).

أرأيت – أيها القارئ – عمق هذا التعامل وحسنه، هكذا التربية بكمالها، وهكذا كان يعامل النبي ﷺ أمته.

من هذا ينبغي على المربين اقتفاء هذا المنهج النبوي: رحمة ولطفًا وحسن تدبير وروية وحلمًا وسعة ونظراً إلى المصالح والمفاسد.

ولكن عندما يكون العمل جماعيًا خاطئًا، يغضب عليه الصلاة والسلام، فتراه يصعد المنبر ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، كما جاء في حديث أنس ا أن نفرًا من أصحاب النبي ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السرِّ فقال: بعضهم لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»(6).

فلو قارنا بين الأسلوبين لوجدنا أنهما يكمل بعضهما بعضًا، ذاك اللين في موضعه، والحزم في موضعه، فاللين عند الخطأ الفردي غير المتعمد وأمثاله، والحزم عندما يكون الخطأ جماعيًا، أو على شكل ظاهرة من الظواهر يخشى أن تعم المجتمع بأكمله.

ولهذا نقول إن على المختصين في التربية أن يجلوا هذا المنهج النبوي الكمالي ليكون نبراسًا مضيئًا للأمة بأكملها، وسيجدوا فيه الغنية والكفاية، ما لا يجدون في غيره من مذاهب الناس: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ}(7).

 

السمة الثالثة: الواقعية:

إن المنهج التربوي النبوي منهج واقعي، بمعنى أنه ممكن التطبيق في واقع الناس، ليس نظريًا بحتًا، ولا مثاليًا لا يطيقه إلا أفذاذ الناس، وليس بالعسير الذي لا يطاق كبعض المناهج الفلسفية.

فالمنهج التربوي: واقعي في فهمه، وواقعي في تطبيقه والعمل به، وواقعي في زمانه ومكانه.

1 - أما واقعيته في فهمه لأن الذي أتى به وعمل به هو رسول الله ﷺ، فهو مصدره، عاش بين الناس وسمعوا منه، وفهموه، وما لم يفهموه سألوا عنه، فلم ينتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى إلا وقد بيّن لهم كل شيء، فالأب في تربيته لأبنائه يجد بغيته واضحة جلية، والمعلم كذلك، والسياسي كذلك، والاقتصادي كذلك، والطبيب النفسي كذلك في معالجته لمرضاه.

إن كلامه عليه الصلاة والسلام سهل وواضح وميسر، لأن هذه رسالته يريد أن يرسلها إلى الناس واضحة مفهومة.

2 - أما واقعيته في تطبيقه والعمل به، فما بعث النبي ﷺ إلا ليرى الإسلام حيًا يمشي على الأرض، يراه الناس فيرون الإسلام ومنه منهجه التربوي، يربي الصحابة بوضوح، يوصي أحدهم بالصلاة على وقتها والآخر: بعدم الغضب، والثالث: بحفظ الله وهكذا المربي في تربيته يكون واقعيًا، فيربي الآخرين بما يناسبهم، ويربي أسرته، يخاطبهم باللين، ويعمل معهم في أعمال المنزل، ويوصيهم بالصلاة وقيام الليل، ويحزم عليهم في موضع الحزم، فهو للآباء قدوة، ولعامة المربين أسوة.

3 - أما واقعيته في زمانه ومكانه، فلا شك أن للزمان خصوصيته وللمكان كذلك، فيراعي المربي الوقت من حيث أفضليته، مثل شهر رمضان والأيام العشر من ذي الحجة، فتكون التربية على أمور الطاعة والعبادة أكثر من غيرهما، وللمكان كذلك فيراعى وضعه، كالمسجد مثلاً في احترامه وتقديره وعدم العبث فيه ومراعاة حرمته، وكذا الحرم، والمسجد الحرام بخصوصه... وهكذا.

فأينما اتجهت في هذا المنهج النبوي فتجده واقعيًا ممكن التطبيق علميًا وعمليًا، فدعوة للمربين ليخرجوا ما في الهدي النبوي من الكنوز التربوية العظيمة وإظهارها للناس بالقول والعمل.

السمة الرابعة: اليسر والسهولة :

إن من أهم سمات المنهج التربوي النبوي اليسر والسهولة في العقيدة وفي الأحكام والواجبات والآداب المبادئ، فلا تعقيد فكري، ولا غلو، ولا إفراط، ولا تشدد، ولا صعوبة عملية، أو تكليف لا يطاق، ولا طلبات مستحيلة، أو أفكار هلامية، أو تعاليم في برج عاجي لا يوصل إليه، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، يسرّوا ولا تعسروا، بشرّوا ولا تنفروا»(8).

والمنهج التربوي جزء لا يتجزأ من هذا الدين، فهو منهج ميسر تمثله عليه الصلاة والسلام في أقواله وأفعاله وسلوكياته ومعاملاته:

1 - ففي تربيته للجانب العبادي، فهو يربي أصحابه على القيام بها في حدود التكليف المطاق، فمن كان صحيحًا معافى يصلي قائمًا – مثلاً – فإن كان لا يستطيع صلّى جالسًا، ومن لم يستطع صلى على جنب.

هنا تقبل النفس على هذه العبادة فلا ترى حرجًا، ومن ثَمّ تسارع لأدائها على الوجه المطلوب، وفي الوقت نفسه ليس فيها ما يدعو إلى صعوبة التطبيق.

وفي تربيته على الصيام – مثلاً – بيّن أنه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم واصل هو عليه الصلاة والسلام فأراد الصحابة أن يواصلوا – بمعنى أن يواصلوا صومهم إلى طلوع الفجر أو يومين أو ثلاثة – فنهاهم عن ذلك عليه الصلاة والسلام لأنهم لا يطيقون. وهكذا في جميع جوانب العبادة أمر بفعل ما يطيقه الإنسان.

2 - وفي جوانب المعاملات والتعامل نجد الحث على الخلق الكريم، واللطف في القول، ولين الجانب، وحسن الكلام، حتى يصل إلى شيوع الابتسامة ففيها صدقة.

3 - وفي الجانب الأسري يحثهم على ما يطيقون من الأعمال مع التحمل والصبر وسعة البال وتلبية الحاجات والرغبات، فيحث المرأة على الصلاة في بيتها، ويشجعها على القيام بحقوق زوجها وتربية أبنائها ويجعل ذلك بابًا من أبواب الجنة.

    

فالمنهج النبوي منهج كريم ميسر، يدعو إلى التيسير في جوانب التربية كلها، اقتداء به عليه الصلاة والسلام، فإلى الآباء والمعلمين والموجهين والمسؤولين أن يقتفوا هذا المنهج وينشروه ليروا ثمراته في الدنيا قبل الآخرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ المائدة: 3]

(2) أخرجه أحمد (2: 279 رقم 7744)

(3) أخرجه: الترمذي (4: 667 ، رقم 2516)

(4) سبق تخريجه.

(5) سبق تخريجه.

(6) أخرجه مسلم (2: 1020 رقم 1401).

(7) [النجم: 4-5]

(8) سبق تخريجه.



بحث عن بحث