هل الإيمان بالقدر يعارض فعل الأسباب؟

إن الإيمان بالقدر لا يعارض أو ينافي فعل الأسباب، وكيف ينافيها وقد أمر الله تعالى ونبيه ﷺ بها واتخاذها وسائل مرتبطة بالغايات التي يسعى إليها الإنسان، فلو كان فعل الأسباب يعارض الإيمان بالقدر لتخلى الناس عن كل شيء وقعدوا عن الحركة والسعي في الحياة لتأتيهم أرزاقهم ومعاشهم، وتتحقق آمالهم ورغباتهم من عند الله، ولكن الحقيقة التي بُني عليها هذا الدين تخالف هذا التصور وتنبذه بشدة، فقد ظهرت في بعض العصور الإسلامية فرق تدعو إلى نوع من هذا التفكير والاعتقاد، ولكن الله تعالى الذي تكفل بحفظ دينه وكتابه جعل تلك العصور نقاطًا سوداء ظهرت في التاريخ الإسلامي، حيث خرج العلماء الصالحون المصلحون والأئمة الصادقون الذين أنار الله على أيديهم الحياة وكشف بسببهم ترهات المضلين والجبريين، فانتقلت إلينا بفضل الله تعالى ثم بفضل تلك الكوكبة هذا الدين خالصًا من غير تبديل أو تحريف.

وقد أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالسبب دون الاستسلام للتصور الخاطئ في حادثة الطاعون الذي أصاب بلاد الشام وكان متوجهًا إليها، فلما سمع بذلك أمر بالرجوع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «يا أمير المؤمنين كيف ترجع إلى المدينة أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر رضي الله عنه: نَفرّ من قدر الله إلى قدر الله». وهو تصديق لقول الرسول ﷺ عن الطاعون: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها«(1).

ثم إن الدارس للسيرة النبوية وحياة الصحابة رضوان الله عليهم سيجد أن الأخذ بالأسباب كانت دأبهم مع توكلهم على الله تعالى وإيمانهم بأن كل ما يصيبهم من خير وشر مقدّر عليهم، فالرسول ﷺ وهو المخيَّر والمصطفى من عباد الله الذي أرسله الله لتبليغ الرسالة إلى الناس كان يأخذ بالأسباب، وهذا واضح منذ البعثة إلى وفاته ﷺ:

-      فهو الذي أسرّ بالدعوة في بدايتها خشية أن تقمع في مهدها.

-      وهو الذي أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة ليستأمنوا على أنفسهم ودينهم من المشركين.

-      ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة بالهجرة إلى المدينة المنورة خشية العنت عليهم من الكفار والمشركين في مكة المكرمة، وقد كانت في هجرته عليه الصلاة والسلام أعظم دلالة على أخذه بالأسباب، فقد هاجر برفقه أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة سرًا، وكان يستطيع أن يهاجر علنًا، ولكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يبيّن للصحابة وللأمة من بعدهم أن العمل بالأسباب هو جزء من الإسلام، ولا يعارض قدر الله، وإن تجاهل الأمة هذا الأمر يعرضها للضعف والتخلف والجهل.

فترك الأسباب والاستسلام للقدر يعدّ تواكلاً على الله وليس توكلاً عليه، بل إن التوكل الحقيقي هو الأخذ بالأسباب والرضا بالقدر، وهو ما أمر به عليه الصلاة والسلام بقوله: «اعقلها وتوكل«(2).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه البخاري (ص1012، رقم 5728) كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون. ومسلم (ص982، رقم 2219) كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة.

(2) أخرجه الترمذي (ص572، رقم 2517) كتاب الزهد، باب اعقلها وتوكل. وابن حبان (2/510، رقم 731). حديث حسن.



بحث عن بحث