بسم الله الرحمن الرحيم

وكانت الأهداف واضحة محددة:

-تحقيق الإخاء بين أبنائها: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) [سورة الحجرات: 49]. إذن لا تنابذ ولا تباغض ولا تحاسد ولا ضغائن ولا قهر ولا استبداد ولا تسلط ولا عداء ولا اقتتال... وإنما أخوة حب ومودة وتعاون وتفاهم وتآزر وتوافق وتلاحم وتكافل وتضامن... أخوة بكل ما يقتضيه الإخاء.

-تحقيق وحدة الأمة: ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)) [سورة الأنبياء: 92]. لا فرقة ولا تمزق ولا تبعية ولا شرود، وإنما وحدة العقيدة والشريعة والقوى والنظام، وحدة الصف والرأي والكلمة والمصالح والمصير.

-تحقيق خيرتها: " ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))[سورة آل عمران: 110]. خيرتها في المعتقدات والقيم والمفاهيم والأخلاق والسلوك والتعامل والفضائل والمكانة والكرامة والوجود.

-تحقيق علوها: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) [سورة آل عمران: 139]. علو في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والمعرفة والثقافة والحضارة والتصرف والممارسة والتخطيط والتنفيذ والتطبيق.

ولم يكن تحقيق هذه الأهداف ميسورًا لأي من البشر، ولكنه تحقق على يد من اصطفاه ربه لهداية البشر، وهو الأعلم بمن يصطفي لرسالته... فاصطفى.... وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم أهلاً للاصطفاء، فأولى مهمته ذوب فكره، وعصارة جهده، وخلاصة حكمته، ليربي ذلك الجيل الذي قاد المسيرة، ويرتقي برعاة الغنم ليصبحوا قادة الأمم(1).

ألا يجدر بنا أن نستعيد استيعاب تجربتنا هذه؟ خاصةً وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك لنا ما إن تمسكنا به فلن نضل أبدًا: "الكتاب والسنة".

والسنة النبوية تعتبر من أهم مصادر التربية الإنسانية المتكاملة سواء في إعداد وتنشئة الفرد، أم في تكوين وتوجيه الجماعة، وذلك لكونها زاخرة بالأسس والمبادئ والدعائم التربوية الحية والمتجددة التي إن اتبعناها في مناهجنا ونظمنا التعليمية، وتوجيهاتنا الأخلاقية، وإرشاداتنا الاجتماعية، لكفلت لنا بحق تكوين "الإنسان الصالح" و"المجتمع الصالح" على نحو من الكمال الإنساني المنشود.

وإذا كان من الواجب علينا شرعًا الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تشريعاتنا ومعاملاتنا وعلاقاتنا وفي كل شأن من شؤون حياتنا؛ لقوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ))[سورة الأحزاب:21]، فإن اقتداءنا بالسنة في تربية ناشئتنا منذ الصغر أوكد وأوجب، لكونها غنيةً بالأسس والتضمينات التربوية الإيجابية، وزاخرةً بالتوجيهات والإرشادات البناءة، وثريةً بالحكمة والوعي والتبصر في فهم النفس البشرية بمركباتها وتفاعلاتها ودوافعها وعواطفها وانفعالاتها المختلفة، ولا شك أن الاستهداء بتعاليمها، والاسترشاد بمناهجها، واتباع أساليبها من طرف الآباء والمربين والمسؤولين عامة - في البيت والمدرسة والمجتمع، وفي مختلف المناهج والبرامج والأنشطة التعليمية والتربوية والتثقيفية والتوجيهية - يضمن لنا إلى حد ممكن خلق جيل سوي متكامل الشخصية روحيًا وعقليًا ووجدانيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا وجسديًا، محصن ضد الانحرافات والمفاسد وأسباب التحلل العقائدي والخلقي والاجتماعي.

إن التربية النبوية يمكن وصفها - كما يقول أحد الباحثين - بأنها: "عملية متكاملة" و" عملية حياة"....

 ونعني بقولنا إن التربية النبوية" عملية متكاملة": أنها تعنى بالجانب الروحي والعقلي والوجداني والأخلاقي والاجتماعي والجسدي في تكوين الشخصية الإنسانية وفق معيار الاعتدال والاتزان، فلا إفراط في جانب دون غيره، ولا تفريط في جانب لحساب آخر، وهي بذلك تركز على تنشئة "الإنسان الصالح" بدون قيود الزمان أو المكان، وهي بهذا الهدف الخلاق فاقت هدف التربية الحديثة التي تنشد تكوين " المواطن الصالح" حسب معايير البيئة التي يعيش فيها أو العنصر الذي يحيا فيه.

إن التربية النبوية تكون " الإنسان الكامل" الذي تجتمع في شخصيته قيم الروح والعقل والوجدان وفضائل النفس والخلق والبدن، مع الموازنة العادلة بين جانبيه الفردي والاجتماعي، فهو إنسان كامل كفرد في عقيدته وخلقه وسلوكه وتصرفاته ونهجه في الحياة، وهو إنسان كامل كعضو في الجماعة يعمل على خيرها وتحقيق أهدافها، ويساهم بإيجابية في صيانة كيانها وخلقها وتراثها.

ونعني بقولنا إن التربية النبوية: " عملية حياة" اهتمامها بالإنسان قبل مولده، ومن مهده إلى لحده، فهي تحث أساسًا على اختيار والديه من الصالحين دينًا وخلقًا وبدنًا، وهي تهتم بحسن غذائه وكسائه، وتعنى بتربيته الدينية والعقلية والخلقية والاجتماعية منذ فجر طفولته حتى ترسخ عقيدته، ويكتسب الخصال الحميدة والأخلاق الكريمة، وينمو تحصيله العلمي والمعرفي منذ الصغر، ويحسن التعامل مع الآخرين، ويكوِّن معهم علاقات إيجابية وصلات مثمرة(2).

تلك هي معالم التربية في السنة النبوية - سيأتي تفصيل ذلك - تهدف إلى تكوين المؤمن المتكامل الشخصية، ذي النظرة الإيجابية للحياة، الذي قويت همته، واشتدت عزيمته، فلا يلحقه غرور، ولا يحطمه فشل، إن وجد يسرًا شكر الله تعالى وواصل طريقه، وإن وجد عسرًا استعان بالله تعالى وصبر على المكاره، واستمرت محاولته في تخطي الصعاب والعراقيل التي تعترضه حتى يوفقه الله تعالى إلى بلوغ آماله.

هذا هو المسلم المنشود، الذي لا يستسلم للواقع، بل يعمل على تغييره كما أمر الله، ولا يعتذر بالقضاء والقدر، بل يؤمن بأنه هو قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد، إنه المسلم الذي يعمل لإقامة رسالة، وبناء أمة، وإحياء حضارة.

-رسالة امتدت طولاً حتى شملت آماد الزمن، وامتدت عرضًا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقًا حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة.

-وأمة خصها الله بخير كتاب أنزل، وأعظم نبي أرسل، جعلها خير أمة أخرجت للناس، وجعلها أمةً وسطًا في كل شيء، وأهلها للأستاذية والشهادة على الناس.

-وحضارة ربانية إنسانية عالمية أخلاقية، جمعت بين العلم والإيمان، ومزجت بين المادة والروح، ووازنت بين الدنيا والآخرة، وحفظت للإنسان خصائص الإنسان، وكرامة الإنسان.

كانت تربية هذا المسلم هي العمل الأساس لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعلن الله عن مهمته فقال: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ))[سورة آل عمران: 164].

والتزكية كلمة تضم معنى الطهارة، ومعنى النماء، فهو يطهرهم من الشرك والرذائل، وينميهم بالتوحيد والفضائل، فهي تتضمن التخلية والتحلية - كما يقولون - وبعبارة أخرى: يربيهم التربية العملية المتكاملة المتضمنة لحسن فهم الدين والإيمان به، إيمانًا يدفع إلى العمل به، والعمل له، وذلك بالأسوة الحسنة.

ومع هذه التزكية العملية يقوم بتعليمهم الكتاب الإلهي المنزل، بتفهيمهم معاني آياته، ومقاصد تشريعه، وأسرار توجيهه، وبيان ما غمض عليهم منه، وتفصيل ما أجمل من أوامره ونواهيه وأخباره، حتى لا يزيغوا في فهمه أو اتباعه.

كما يعلمهم مع الكتاب "الحكمة" النظرية، وتعني: العلم المقترن بأسرار الأحكام وغاياتها، الباعث على العمل.

والعملية: وتعني: اتباع أحسن الطرق وأفضل الأساليب في العمل والدعوة والجهاد: ((وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا))[سورة البقرة: 269].

ثم يعلمهم بعد ذلك ما لم يكونوا يعلمون، من أمور الدين، وشئون الحياة مما يرقى بهم أفرادًا وجماعاتٍ في مدارج الكمال.

وهذه الشعب الأربع من مهمته - عليه الصلاة والسلام - هي التي تتكون منها سنته، أو طريقته، أو منهجه، في فهم دين الله تعالى، وتطبيقه، والدعوة إليه كما أمره ربه: ((بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ))[سورة النحل: 125].

وهذه السنة - أو هذا المنهج - بهذا المفهوم، قد أصبحت - بجوار القرآن الكريم - مصدرًا لمعرفة الإسلام معرفة مقترنة بالعمل والتطبيق.

لكل ذلك كانت هذه الدراسة عن " التربية في السنة النبوية"، والتي نرجو الله عز وجل أن يرزقنا فيها السداد في القول، والإخلاص في القصد، والتوفيق لحسن العمل بما نعلم، والقبول لما نعمل، وأن يرزقنا علم مالم نعلم: ((سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) [سورة البقرة: 32].

 

الهوامش:

 (1) انظر: النبي المربي، ص: 11-13.

 (2) انظر: أسس التربية في السنة النبوية، ص: 11.



بحث عن بحث