3- أن الله - سبحانه وتعالى- قال عن نطق نبيه - صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) [ سورة النجم /3-4 ].

     وقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفي والاستثناء – وهذا واضح في إثبات أن كلامه - صلى الله عليه وسلم- محصور في كونه وحي، فهو لا يتكلم إلا به، وليس بغيره.

      يقول ابن حزم: " لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ووجدناه -عز وجل- يقول فيه واصفا لرسوله - صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى).

     فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله - عز وجل- إلى رسوله إلى قسمين:

أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام، وهو القرآن.

والآخر: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وهو المبين عنه- عز وجل-، مراده منا(1).

      ويقول أيضا في موضع آخر: " قال الله - عز وجل- عن نبيه - صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى)، وقال تعالى آمراً لنبيه - صلى الله عليه وسلم- أن يقول: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [ سورة الأحقاف /9 ]، وقال تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).

       فصح أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كله في الدين وحي من عند الله - عز وجل- لا شك في ذلك(2).

       ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) أي إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملاً موفوراً من غير زيادة ولا نقصان، ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- والذي يقول فيه: " كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق "(3).

       وهذا الحديث يؤكد أن كل ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم- في كل أحواله وحي، لا فرق بين حال الرضا وحال الغضب.

-      شبهة حول هذا الدليل وردها:

       هذا وقد حرف منكرو السنة معنى آية ( النجم )، و جزموا بأن (إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) وصف للقرآن وحده، ولا تدخل السنة في هذا الوحي بحال(4).

      قلت: ويقدح في هذا الجزم سياق الآيات:

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى).

      فقد فرق منكرو السنة بين الضمير المستتر في (يَنْطِقُ) وهو فاعل النطق فجعلوه للنبي، أو أبقوه على دلالته الظاهرة – وهذا حق لا نزاع فيه – وبين الضمير الظاهر المنفصل في (إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) فجعلوا الضمير (هُوَ)عائدا على القرآن وحده.

      وهذا تعسف محض؛ لأن القرآن لم يرد له ذكر هنا حتى يعود عليه الضمير، ولأن لهذا الضمير مرجعاً في الآية قبله، وهو (النطق) المفهوم من الفعل المضارع (يَنْطِقُ) أي: وما نطقه - صلى الله عليه وسلم- إلا وحي يوحى. سواء في ذلك القرآن والسنة. ولأن المقام مقام ثناء وتزكية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- من طهارة قلب، وصدق لسان.

      وقد أكد الحق - عز وجل- هذا الثناء بالتوكيد القسمي (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى).

       ثم نزه الله رسوله بعد ذلك فنفى عنه الضلال والغواية (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى).

       ثم نفى تأثير أهواء النفس في قوله وحديثه (نطقه) (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)، ثم حصر نطقه في كونه وحيا.

        فمن أين فهم هؤلاء المرجفون أن الضمير في (إِنْ هُوَ) عائد على القرآن وحده؟.

       إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان ينطق بالسنة كما ينطق بالقرآن، فكان حريا بهم – لو كانوا منصفين – أن يقولوا إن الضمير في (إِنْ هُوَ) شامل لما نطق به النبي كله، سواء كان نطقه قرآنا، أو سنة مراداً بها التبليغ عن الله - عز وجل-، ولما كان محمد - صلى الله عليه وسلم- ينطق بالقرآن وبالسنة وقد سميت هذه السنة وحيا كما تقدم، فرق كثير من العلماء بين وحي القرآن ووحي السنة.

-       فوحي القرآن ما كان باللفظ والمعنى، ولا تجوز بحال روايته بالمعنى فحسب.

- ووحي السنة ما كان بالمعنى، واللفظ من عند النبي - صلى الله عليه وسلم-، ويجوز روايتها عنه – عليه الصلاة والسلام – بالمعنى عند الضرورة. نطقا لا كتابة.

-   أو أن القرآن وحي جلي، والسنة وحي خفي، وكون السنة من عند الله، بأي كيفية أعلم الله بها رسوله، هذا المعنى يؤيده القرآن الحكيم مرة أخرى في قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [ سورة النساء: 113 ].

       فهل – بعد هذا – يكون لهذه الشبهة رواج أو قبول، عند ذوي العقول.

       ولا يقدح في كون السنة وحي معنى لا وحي ألفاظ، أن بعض الأحاديث تختلف رواياتها بوضع لفظ مكان آخر أو بالزيادة والنقص، أو بالتقديم والتأخير؛ لأن هذه "الاختلافات" كانت بسبب اختلاف السماع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فإن كل راوٍ يروي ما سمع كما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فمرة نطق بهذا، ومرة نطق بذاك، حتى وإن ترتب على ذلك اختلاف المعنى.

       وما أشبه هذا في السنة الصحيحة باختلاف القراءات في القرآن، والقراءات الصحيحة كلها قرآن، ولا تقدح هذه القراءات في مصدرية القرآن، وهو الوحي المتعبد بتلاوته(5).


 


(1)     الإحكام 1/93.

(2)     الإحكام في أصول الأحكام 1/114.

(3)     الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/162، وأخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب في كتابة العلم ( رقم 3646) وإسناده صحيح، وانظر: تفسير ابن كثير( 7/3325 ).

(4)     انظر: الكتاب والقرآن للدكتور محمد شحرور ص 545.

(5)     انظر: الشبهات الثلاثون للدكتور عبد العظيم المطعني ص 77-80.

 



بحث عن بحث