القاعدة الثامنة

السنّة والتطبيق العملي أو السنة وتنزيلها على الواقع

المقصود بهذه القاعدة هو الإشارة إلى بعض المنهجيات المهمة في تنزيل النصوص النبوية على الواقع، ومن هو الذي ينزّلها على واقع الناس وأحوالهم. فما سبق هو تقعيد نظري لفهم السنة النبوية ونصوصها وكيفية استخراج الأحكام والمسائل منها، وهنا بعض الضوابط والآليات، للتطبيق العملي، وبعض السمات المؤهلة لمن يريد تنزيل النصوص على واقع معين.

وتنتظم هذه القاعدة عددًا من النقاط المنهجية في قسمين هما:

القسم الأول: ما يتعلق بمنهجية العمل والتطبيق:

1- استحضار ما سبق الكلام عليه في التمهيد من مكانة السنة النبوية وأهميتها وعظم شأنها ومصدريتها للعقيدة والتشريع والجوانب الحياة كلها، وضرورة العمل بها، وأن السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة مبنية على الإيمان بها والعمل بما جاء به عليه الصلاة والسلام، ونشرها، وأن الشقاوة في الدنيا والآخرة بمخالفتها تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20]، وآيات طاعة الله تعالى ورسوله الأخرى.

وفي الجانب العملي: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

وفي التحذير من المخالفة، قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وغير ذلك مما سبق تفصيله.

إن هذا الإيمان والتسليم والعمل هو المنطلق الكبير للفهم الصحيح لمراد الشارع في النصوص، والحاجز من الوقوع في انحراف الفهم.

كما أنه الحافز لسلامة العمل والتطبيق، ويستلهم هذا من قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: 282].

2- استحضار القواعد السابقة التي تعتبر منطلقات منهجية للوصول إلى الفهم المراد وإن كانت لم تحو جميع التفصيلات المراد تعلمها فليس هذا مرادًا بهذا البحث، ومجاله كتب الأصول والمصطلح لكن أن يبقى هناك منطلقات منهجية يستحضرها طالب السنة فتحكم له المسار العام فلا ينساق مع جزئية من الجزئيات، ويفضل المسار الأصل فينحرف الفهم. فإذا استحضر ما يتعلق بالإسناد والحكم عليه، والمتن وسلامته وأدوات الفهم السليم، وعلاقته بمصادر التشريع الأخرى، وبما عليه العقل، وما تمارسه الأعراف والتقاليد فهذه المنطلقات تحدد المسار الصحيح للوصول إلى الغاية المرادة بفهم السنة وتطبيقها التطبيق السليم.

3- مع إدراك تلك المنطلقات إلا أن هناك قضية من أهم القضايا تعين على فقه سلامة التطبيق وهي تدخل في باب: حسن السياسة للتطبيق ومن أهم النقاط في هذه القضية:

أ – إدراك شمولية الدين وسعته، وفي الوقت نفسه دقته وكماله، وهذا يجعل المساحة أمام العالم وطالب السنة كبيرة في التطبيق، فمن الحكم البلاغية المفيدة هنا: لكل مقام مقال، وما كل ما يعلم يقال، ولا ما يقال يقال في كل الأحوال، وتطبيق هذا أن تفصيلات جزئيات العلم يحسن ذكرها عند طلاب العلم، ومنها التفصيل في ذكر المسائل الخلافية، بينما هذا لا يحسن بل لا يفيد عند العامة وأشباههم، ومن ذلك بعض المسائل التي لا أثر لها في التطبيق، أو تحدث إشكالًا في الدين، ومن ذلك رواية بعض الأحاديث في الغرائب، أو ما لا تدركه عقولهم، ومن ذكر تفاصيل الأسانيد ونحو ذلك.

وتأصيل هذا فيما رواه البخاري عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: «حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله».

وهكذا جرى عمل الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من الأئمة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه : (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما الأول فبثـثـته لكم، وأما الآخر فلو بثـثـته لقطع هذا البلعوم).

وذكر أهل العلم أن المقصود بالوعاء الثاني الأحاديث التي لا ينبني عليها عمل كأحاديث الفتن وآخر الزمان ونحوها.

ووجه الشاهد: أن أبا هريرة رضي الله عنه يدرك أهمية نشر السنة لكن ما لا يترتب عليه عمل أو يحدث تشويشًا لم يحدث به، وعليه فطالب السنة عليه أن يفقه أنه ليس كل حديث يحدث به، ولا كل مسألة علمها يذكرها في كل مقام، بل يكون حصيفًا تنبيهًا يقدر الزمان والمكان والحال، وأحسب أن هذا من أعظم ما ينبغي فقهه لطالب فهم السنة.

ب- لا شكّ أن مع تقادم الزمن تستجد مسائل، وأحوال، وتنزل نوازل، ويحدث حوادث كلها تتطلب أحكامًا عملية تستند إلى الدليل الشرعي من القرآن الكريم أو السنة النبوية سواء كانت مجرد مسائل، كالنوازل الطبية والعمرانية والاجتماعية والقضائية والمالية أو على شكل علوم ومعارف عان كعلم الاجتماع والتربية وعلم النفس وغيرها.

ومن حسن الفقه والسياسة الشرعية والفهم الدقيق لطالب السنة أن يدرك كيفية التعامل معها وإرجاعها إلى تأصيلها من السنة النبوية، ومن ذلك تجنب التسرع للقبول المطلق أو الرفض المطلق. والعجلة في اتخاذ المواقف.

ومن هنا ينادي كثير من الفقهاء والعقلاء بأهمية المجامع العلمية وتفصيلها وسرعة تعاملها للنظر في مثل هذه المستجدات.

وهذا مع وجوب إدراك أن الدين كامل، ولكل مسألة أو علم تأصيل من السنة.

جـ - أحاديث الفتن، وهي أحاديث كثيرة، كثير منها صحيح والأكثر غير صحيح.

ومن الفقه في النظر فيها وفقه تطبيقها إدراك كيفية التعامل معها، وأنها لا يمكن تطبيقها على واقع معين ليتزل عليه إلا إذا جاء نص أو نصوص صحيحة صريحة، لا تحيد عما ذكر من الوقائع، وهذا ليس بالأمر اليسير فيتطلب مجامع وليس فردًا يتراءى له أن هذه الأحاديث يراد بها واقع معين، وقد أدركنا في هذا الزمن تخبط كثيرين أوقعوا أحاديث من هذا النوع على أحداث معينة فتبين خلافها.

ولذا فدور طالب السنة هنا:

* إدراك الغاية من أحاديث الفتن ومن ذلك أنها جاءت للتحذير.

* وعدم التسرع في تطبيقها على واقع معين.

وقد ذكر الله سبحانه في القرآن الكريم أن من آيات محكمات ومن آيات متشابهات في قوله تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ...﴾ الآية.

وبيَّن سبحانه الموقف من الآيات المحكمة والآيات المتشابهة يقول تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

وإذا كان هذا في القرآن الكريم، فالسنة كذلك فيها أحاديث محكمة، وفيها أحاديث متشابهة.

فأمَّا الأحاديث المحكمة فواضحة لكل طالب علم، بل منها ما هو واضع لكل مسلم يرنو للحق والعمل به، كالأحكام المتعلقة بالصلاة في شروطها وأركانها وأوقاتها وكذلك الصيام وغيرها.

ومنها: ما هو متشابه مثل الأحاديث التي ظاهرها التعارض والأحاديث المشكلة في ذاتها، أو المترددة بين الصحة والضعف.

فعلى طالب السنة إدراك كيفية التعامل مع هذا الصنف من الأحاديث من خلال المنهج الذي ذكره أهل العلم في مشكل الحديث وهو باب واسع من أبواب المصطلح بل ألف فيه مؤلفات خاصة.

هـ - ومما يندرج في ذلك الأحاديث التي تحدثت عن الأمور الغيبية كأمور اليوم الآخر، أو أحاديث آخر الزمان ونحوها، فعلى طالب السنة إدراك منهج أهل السنة في ذلك وأسباب الزيغ والانحراف الذي وقعت فيه بعض الطوائف لما جاءوا عن هذا المنهج فضلوا وأضلوا، وقد سبق معنا بيان شيء من هذا المنهج عند الحديث عن قاعدة: السنة والعقل.

هذه نماذج مما يدخل في منطلقات الفهم، وسلامة العمل والتطبيق التي يجب أن تكون حاضرة في ذهن طالب السنة ومدركًا لأهميتها، والمنهجية التي يتعامل بها.

¡¡¡

القسم الثاني: ما يتعلق بسمات مريد فهم السنة :

قد يتبادر إلى الذهن أن لا حاجة لذكر هذه السمات لأن أهميتها معروفة لدى طلاب العلم وعامة المتلقين، وهذا صحيح لكن لما كثر المتحدثون والكاتبون عن السنة، وفهمها، وإعطاء كثيرين أنفسهم الأهلية لذلك أردت التأكيد عليها، وإلا فقد ذكرها علماء المصطلح في آداب طالب الحديث، وذكرها الأصوليون من وجه آخر في سمات المجتهد، وهنا أذكر بأبرزها بشيء من الإيجاز:

1- أجدد التذكير في البداية بأهمية القاعدة الأولى وهي إخلاص هذا العمل بعد سبحانه وتعالى، فهذا الإخلاص هو المنطلق الأول بإذن الله تعالى للوصول إلى الحق، وهو باب التوفيق للدلالة عليه، والرجوع عن الباطل، وتحمل قسر النفس على الصواب، والاعتراف فيه، واحترام حق الآخرين في آرائهم وما توصلوا إليه، وهو الـمُلْجئ إلى الله تعالى حال الاشتباه، والحق ليس مجردًا يصل إليه الإنسان بمجرد ملكاته وقدراته وعلمه ما لم يهديه الله إليه ويوفقه لتبينه وطريق ذلك الإخلاص.

2- غني عن القول أن نؤكد هنا ما ذكره العلماء من أن النظر في الأدلة وأدواتها وإصدار الأحكام الشرعية أول ما تحتاج إلى أن يكون الناظر مسلمًا عاقلًا بالغًا، فغير المسلم لا يمكن أن يمحص الحق لأهله كما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾[آل عمران: 100].

وأما المجنون فلا يَعْقِل فكيف يقبل قوله في النظر في المصادر الشرعية وأما الصغير فلم تكتمل أهليته وإدراكه.

3- العلم، وهذه مرتكز السمات المؤهلة للنظر في السنة وفهمها وتطبيقاتها، وإعمالها في ما استقر من الأحكام والنوازل والمستجدات وغيرها، وقد سبق بيان أهمية العلم في الجملة وما ورد فيه وفي فضله من النصوص القرآنية والنبوية كقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وقوله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع».

ومما يخص ذكره من العلم هنا:

أ – العلم بكتاب الله تعالى، واستحضاره في الجملة، والعلم بالآية أو الآيات الدالة على المسألة المرادة، وكيفية الربط بينها وبين الأدلة الأخرى.

ب- العلم بمنهجية فهم السنة والعمل بها المجمل ذكرها في القواعد السابقة كالعلم بقضايا الإسناد والتوصل إلى الحكم، والعلم بأدوات فهم المتن، والعلم بقواعد الترجيح بين الأدلة وغيرها.

جـ - معرفة مواقع الإجماع حتى لا يخالفها، ومواقع الخلاف، وكيفية التعامل مع القضايا الخلافية، وأدوات الترجيح بين الآراء حال الخلاف.

د- معرفة الناسخ من المنسوخ من الأدلة حتى لا يعمل بالمنسوخ وقريب منه وهو أدق ما أجمع على ترك العمل به مع صحة إسناده، أو عمل به مع ضعف إسناده والمستند الذي اعتمد عليه.

هـ - العلم بالمصادر الأخرى والقواعد الشرعية العامة الموصلة إلى الاستنباط السليم، والحكم في المسألة كالقياس والاستصحاب، والاستصلاح وغيرها من طرق الاستدلال.

و – العلم بقواعد الترجيح من حمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد ونحو ذلك مما سبق بيانه.

4- وجود القدرة والملكة المؤهلة للتعامل مع هذه الأسس، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قسم القدرات والمواهب كما قسم الأرزاق والآجال، ولذلك قد يكون عند إنسان ملكة الحفظ لكن لم يرزق ملكة الاستنباط والفهم، أو قد يكون عنده ملكة الاستنباط من النص والتأمل فيه لكن لا تتسع لتنزيل هذا الحكم على الواقع وهكذا، فالقدرة والملكة من أهم السمات لطالب فهم السنة والعمل بها.

5- العدالة والسلوك المستقيم فإذا كان قبول رواية الراوي للحديث، وشهادة الشاهد يشترط لها العدالة فاستنباط الأحكام من الأدلة، وفهمها، والتوجيه للعمل بها من باب أولى، ولعل قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ ﴾ [البقرة: 282] يشير إلى شيء من ذلك فالتقوى موصلة إلى العلم الصحيح.

وهذا يحفز من يسلك هذا الطريق أن يجتهد في الاستقامة، واقتفاء أثر النبي صلى الله عليه وسلم في عباداته وسلوكه وأخلاقه.

6- التواضع للدين، والعلم، وأهل العلم فيدرك المتعامل مع السنة النبوية أن هذا فضل عظيم من الله تعالى ولا ينال الفضل إلا بسمات أهله، والتواضع يربي النفس على الصبر والجلد والتحمل ودقة النظر وسعة النظر، والنظرة الشمولية وتَقَبُّل الحق ولو من أصغر منه، والخضوع لحكم الله تعالى وقبوله والعمل به.

7 – وأخيرًا قصر النفس على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في خلقه بعامة، لأن حامل السنة يريد حمل ميراثه عليه الصلاة والسلام، ومن تأهل لذلك فعليه بهذا الاقتداء، وقد نصب نفسه لسلوك طريق عظيم، وبعظمته تكون عظمة الأخلاق مما سبق من التواضع والصبر والتحمل، وكذا محبة عباد الله، والعطف عليهم، والبر والإحسان، والدعاء لهم وغير ذلك وكلها وسائل معينة للوصول لفهم السنة النبوية والعمل بها.

¡¡¡

وبعد فتلك إشارات للمؤهلات المنهجية بقسميها الأول والثاني لتنزيل النصوص على واقع معين، أريد بها التذكير والاستحضار لتكون معينة على استثمار تلك القواعد، والله ولي التوفيق.



بحث عن بحث