رابعًا: حال السلف مع السنة :

لقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم ضرورة الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. وهم الذين عاصروا التنزيل وعايشوه فما حادوا عن أمره ونهجه صلى الله عليه وسلم وقفوا حيث وقف وساروا حيث سار يقول ابن عمر رضي الله عنه فيما: (إني ألفيت أصحابي على أمر، وإني إن خالفتهم خشيت ألا ألحق بهم).

وهذا معاوية رضي الله عنه لما طاف بالبيت قَبَّل الأركان كلها، فأنكر عليه ابن عباس م فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس م : إنما هي السنة فأنكر عليه الزيادة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه وتعالى لا يعظم الأعمال لكثرتها إلا أن تكون على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقة للسنة، وإن حسن العمل ما كان موافقًا للسنة.

وسار على هذا الهدي سلفنا الصالح أهل القرون المفضلة يحملون هذا العلم ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ظهر ذلك جليًا في منهجهم نقل الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه، وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في المدخل إلى السنن: (أن رجلًا قال للإمام مالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن زدت على ذلك؛ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة قال: وما في هذه من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها. قال: فإن الله تعالى يقول: âفَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ... á [النور : 63] قال: وأي فتنة في هذا؟ قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين الله تعالى مآل من يحيد عن هديه وسنته، فقال: âوَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا á [النساء: 115].

جاءت الجدة إلى الصديق رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال لها: ليس لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء وسأسأل الناس ثم سأل رضي الله عنه الصحابة فشهد عنده بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس فقضى لها بذلك، وكان عمرر ضي الله عنه يوصي عماله أن يقضوا بين الناس بكتاب الله، فإن لم يجدوا القضية في كتاب الله فبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما أشكل عليه حكم إملاص المرأة وهو إسقاطها جنينًا ميتًا بسبب تعدي أحد عليها سأل الصحابة ن عن ذلك فشهد عنده محمد بن مسلمة والمغيرة ابن شعبة م بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بذلك بغرة عبد أو أمة فقضى بذلك رضي الله عنه.

ولما أشكل على عثمان رضي الله عنه حكم اعتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها وأخبرته فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد م أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله قضى بذلك رضي الله عنه، وهكذا قضى بالسنة في إقامة حد الشارب على الوليد بن عقبة، ولما بلغ عليا رضي الله عنه أن عثمان رضي الله عنه ينهى عن متعة الحج أهلّ علي رضي الله عنه بالحج والعمرة جميعًا، وقال: لا أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس، ولما احتج بعض الناس على ابن عباس رضي الله عنه في متعة الحج بقول أبي بكر وعمر م في تحبيذ إفراد الحج قال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. فإذا كان من خالف السنة بقول أبي بكر وعمر يخشى عليه العقوبة فكيف بحال من خالفها لقول من دونهما أو لمجرد رأيه واجتهاده، ولما نازع بعض الناس عبد الله بن عمر م في بعض السنة قال له عبد الله: هل نحن مأمورون باتباع عمر؟ ولما قال رجل لعمران بن حصين م حدثنا عن كتاب الله وهو يحدثهم عن السنة غضب رضي الله عنه وقال: إن السنة هي تفسير كتاب الله، ولولا السنة لم نعرف أن الظهر أربع والمغرب ثلاث، والفجر ركعتان، ولم نعرف تفصيل أحكام الزكاة؛ إلى غير ذلك مما جاءت به السنة من تفصيل الأحكام والقضايا عن الصحابة ن في تعظيم السنة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها وهي كثيرة جدًّا.

ومن ذلك أيضًا أن عبد الله بن عمر م لما حدث بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».

قال بعض أبنائه: والله لنمنعهن فغضب عليه عبد الله وسبه سبًّا شديدًا وقال: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن. ولما رأى عبد الله بن المغفل المزني رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام بعض أقاربه يخذف، نهاه عن ذلك وقال له: إن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الخذف وقال: «إنه لا يصيد ولا ينكأ عدوا ولكنه يكسر السن ويفقأ العين»، ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال: والله لا كلمتك أبدا أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم تعود، وأخرج البيهقي عن أيوب السختياني التابعي الجليل أنه قال: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال، وقال الأوزاعي رحمه الله: السنة قاضية على الكتاب أو تقييد ما أطلقه أو بأحكام لم تذكر في الكتاب كما في قول الله سبحانه: âوَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَá [النحل: 44].

من هذا كله نستخلص أهمية البحث في فهم السنة والعمل بها، وعدم مخالفتها، ومن ذلك ما يتصل بالتقعيد والمنهجية السليمة، ومن ثم الاقتداء بحال السلف الذين عملوا بالسنة في جميع شؤون حياتهم.



بحث عن بحث