مواصفات المخلصين من طلاب العلم والحديث :

إذا كان فيما سبق بيان لقدر الإخلاص وقيمة النية، فإنه يجب على الدعاة أن يدركوا عظم أمر الإخلاص ويستشعروا الحقائق التالية:

أولًا: أن يقصدوا من طلبهم للعلم وجه الله تعالى، وأن يحذروا المقاصد الدنيوية المتنوعة.

ثانيًا: أن تكون جميع تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم الاجتماعي على وفق شريعة الله.

ثالثًا: أن يحاسبوا أنفسهم بشكل دائم ومستمر، وأن يتساءلوا ماذا يريدون من تبليغ الدعوة؟ وماذا يقصدون من دعوة الناس؟

رابعًا: أن ينظروا إلى أفعالهم هل هي مطابقة لأقوالهم ولسان حالهم؟

خامسًا: أن يحذروا مكائد الشيطان، ووساوس النفس والهوى، وفتنة العجب ومزالق الرياء. فإن هذا من أكبر المزالق، وأعظم الأخطار.

سادسًا: أن يحسنوا الظن بالمسلمين، ولا يسيئوا الظن بهم وبأعمالهم، ففي الحديث: «إن أقوامًا بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر».

فطلاب العلم والدعاة إلى الله إذا أدركوا هذه الحقائق، واتصفوا بهذه المواصفات، ساروا صادقين في درب الإخلاص، ومضوا مخلصين في طريق العلم والدعوة حقق الله سبحانه على أيديهم إصلاح البشر، وهداية الناس وبرئت ذممهم، بل إن الناس يتأثرون بهم، ويستجيبون لدعوتهم، ويقبلون هدى الله عز وجل طائعين مختارين.

لماذا كان الإخلاص ضرورة للعلماء وطلاب العلم والدعاة؟:

إن العمل لنشر الإسلام وعودته لقيادة الحياة بعقيدته وشريعته وأخلاقه وحضارته، إنما هو عبادة وقربة إلى الله عز وجل من ناحية، وجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى، وتجريد النية لله في هذه العبادة وذلك الجهاد أمر أساس لقبول العمل ولنجاحه معًا، فالنية المدخولة تفسد العمل، وتلوث النفس، وتضعف الصف، وتحبط الأجر، والنية الصالحة تصلح العمل، وتقوي العزم، وتفسح الطريق، وتعين على إزالة العقبات، قال تعالى: âإِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَاá [النساء: 35]، فدل على أهمية الإرادة والنية في إنجاز المهمة المنشودة، فهي سبب توفيق الله تعالى وتأييده.

وقد كتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز ناصحًا له، فقال: «اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية، فمن تمت نيته تم عون الله له، ومن نقصت نيته نقص بقدره».

ولهذا السر بدأ الأمام البخاري كتابه «الجامع الصحيح» بهذا الحديث الذي عده بعض العلماء ربع الإسلام أو ثلثه: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها إلى ما هاجر إليه».

إن على المسلم العامل للإسلام أن يفتش في قلبه عن حقيقة نواياه وبواعثه، فإن كان فيها حظ للدنيا أو للشيطان، جاهد أن ينقى قلبه من دخله، وأن يجرد نيته لله، وأن ينذر نفسه محررًا لربه، كما قالت امرأة عمران  âرَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُá [آل عمران: 35]، وهذه الكلمة من أم مريم ﴿محررًا﴾ توحي بأن سنة الله ألا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا من كل شركة محررًا من كل عبودية لغيره.

إن الحياة لا يسود فيها الحق، وينشر الخير، وتعلو كلمة الإيمان، وتخفق أعلام الفضيلة بانحراف النوايا، ولا بطلب المغنم من الدنيا، ولا بالمرائين الذين لا يعملون إلا ليراهم الناس، ويسمعوا بهم، ويتحدثوا عنهم، ويشيروا إليهم بالبنان، بل ينتصر الحق والخير والإيمان والفضيلة بالمخلصين الذين يعتنقون المبادئ بإخلاص لله ورغب ورهب.

إن الداعية الحق لا يجري وراء المطامع، ولا يخطف بصره بريق الشهرة، ولا يجذب قلبه سطوة الجاه والنفوذ... إن الدنيا ليست أكبر همه، ولا مبلغ علمه، إن أكبر همه أن يتقبله الله في عباده الصالحين، وجنده الصادقين، وحزبه المفلحين.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم :: «لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا طلبت الإخلاص، فأقبل على الطمع أولًا فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص».

ويقول الغزالي : في كلام نفيس يسطر بماء من ذهب: بعد أن ذكر فتنة حبّ الجاه والظهور والشهرة والمحمدة عند الناس وبخاصة لدى الدعاة والعلماء: «وأشد الخلق تعرضًا لهذه الفتنة العلماء، فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع، والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يلبس عليهم ذلك ويقول: غرضكم نشر دين الله، والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترى الواعظ يمنُّ على الله تعالى بنصيحة الخلق، ووعظه للسلاطين، ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه، وهو يدعى أنه يفرح بما يسّر له من نصرة الدين، ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه واعظًا، وانصرف الناس عنه، واقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه، ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى، إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره، ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه، ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك، إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب، واغتمامك لفوات الثواب محمود، ولا يدري المسكين، أن انقياده للحق، وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثوابًا، وأعود عليه في الآخرة من انفراده.

فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق، يغرق فيه الجميع، إلا الشاذ النادر، والفرد الفذ، وهو المستشفى في قوله تعالى: âإِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ á [ص: 83].

إنها كلمات حرية بالتأمل من كل طالب علم وداعية، تغوص في أعماق النفوس، وتصارحها بخفاياها.

إن وضوح هذا الهدف أمر ضروري للعاملين في الدعوة، فقد يكون هدفهم تصحيح العقيدة أو نشر الشريعة، أو عودة مجد أو حضارة أو نحو ذلك من الأهداف التي يسعون إليها، ويحرصون على تحقيقها، ولكن هدف الأهداف، وغاية الغايات من وراء ذلك كله، هو رضوان الله عز وجل.

النتائج المترتبة على مخالفة هذه القاعدة:

لا شك أنه يترتب على الانحراف عن هذه القاعدة الثمينة العظيمة آثار سلبية على الداعية والدعوة نفسها، أوجز بعضها فيما يلي:

1 - إن غياب الإخلاص - مع ما سبق - يعرض الداعية إلى الرد وعدم القبول، ويعرض الدعوة إلى التلاشي والاضمحلال، ويورث في القلوب نوايا الدنيا بشهواتها، ويوقعها في شراك الشيطان وأعماله.

2 - كما يفتح عدم الإخلاص وتشعب النوايا الباب على مصراعيه لاتباع الشيطان، وأعداء الدعوة ليقدحوا في الدعوة نفسها فضلًا عن الداعية الذي انحرف قصده ومال بنيته يمينًا ويسارًا.

3 – وإن مخالفة هذه القاعدة قد ينشأ عنها مجموعة من الناس يندسون في صفوف الدعوة، كلامهم كثير، وعملهم قليل، يقلون عند الفزع، ويكثرون عند الطمع، يتخذون الدعوة قنطرة إلى مآربهم، وسلمًا إلى مطامعهم، متظاهرين بالتقوى، متوسلين بالقول المعسول، والحماس المفتعل، واللمس الناعم، وباطنهم خراب وقلوبهم هواء، وذلك شر ما تصاب به الدعوات الربانية، وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك حين قال: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عزَّ وجل: أبيَ يغترون أم علي يجترئون؟ فبي حلفت: لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانًا».

4 ـ ومخالفة هذه القاعدة يورث التحزب والتنافر وتبادل الاتهامات، وتشيع الدعاة إلى فرق وأحزاب، فكل يدعي أنه الصواب وغيره الخطأ، ويلمز ويغمز بالآخرين، ومن ثم فشل الدعوة نفسها، وعدم الوصول إلى أهدافها.

وفي ختام هذه القاعدة: أجيب على سؤال: كيف يكون الإخلاص في التعامل مع السنة النبوية؟

والإجابة باختصار: أن الإخلاص يفتح مغاليق من العلم لا تدرك بمجلة النظر العلمي الظاهر، يقول تعالى:âوَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ á [البقرة: 282] .

وآية ذلك ما يقع من التفاوت بين أهل العلم في الاستنباط من النص الواحد؛ ولأن علم الحديث علم شاق وقد يقطع عن طلب كثير من الدنيا وإنما يهون الإخلاص المقتضي تقديم ما عند الله من الأجر والثواب، ومن ثمَّ الرسوخ فيه وإدراكه بعمق وبصيرة.

وأخيرًا: إن هذه القاعدة جدٌّ وليست هزلًا تحتاج إلى مصارحة ومكاشفة للنفس – كما سبق في كلام الغزالي : – ومراجعة بين وقت وآخر كما قال سفيان الثوري :: «ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي».

هذه هي القاعدة الأولى، ومنطلق الدعوة، فليبدأ طالب فهم السنة والعامل بها بتحريرها وتجريدها. حقق الله تعالى ذلك.



بحث عن بحث