الوقفة السابعة:

فوائد محاسبة النفس

هذه المحاسبة للنفس لها فوائد في الدنيا والآخرة وثمار في العاجل والآجل وعلى حياة الإنسان وأعماله، منها ما يلي:

أولًا: أن يعرف العبد حق الله تعالى عليه؛ فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله، ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

ثانيًا: الاطلاع على عيوب النفس: ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها.

قال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة.

وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إليّ.

وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس من جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتًا.

إن محاسبة الإنسان لنفسه تعلمه عيوبها ومواطن الضعف والنقص فيها، وإذا علم الفرد عيوب نفسه استطاع أن يعالجها ويقومها.

لو أنك حاسبت نفسك على الصلاة يومًا فوجدت أنك قصرت فيها بأن لا تحضر مثلًا إلا مع الإقامة، فتبدأ بعلاجها، ثم ترى مستقبلًا أنك من المبكرين لها.

يقول ابن القيم رحمه الله:

من لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها قتلها في ذات الله، وهكذا كان السلف ي.

ويقول أيضًا رحمه الله رحمه الله ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو به العبد في لحظة واحدة أضعاف ما يدنو به العمل.

وقال آخر: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورًا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.

ثالثًا: الاستعداد للرحيل: فالمحاسبة تجعل النفس دائمة الاستعداد ليوم القيامة، تعد الزاد وتستكثر منه، فالمحاسب لنفسه يستحضر قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: 30] كيف ذلك؟

مثال: إذا حاسبت نفسك على الوقت استغللته بالمفيد، ولذلك جاء الحث على معرفة حال الدنيا وأنها دار عبور، أما إذا قضيت وقتك سبهللًا فسيذهب عليك الليل والنهار حتى يفجأك الأجل وتندم ولات ساعة مندم.

قال أحدهم:

سـبيلك في الدنيـا سبيل مسافر
ولا بد للإنسان من حمل عدة

  ولا بـد مـن زاد لكـل مسافـر
ولا سيما إن خاف صولة قاهر

وآخر يقول:

وما هـذه الـدنيـا إلا مراحـل
وأعجب شيء لو تأملت أنها

  يحث بها داع إلى الموت قاصد
مـنازل تطـوى والـمسافـر قاعـد

فإذا استشعر العبد وتيقن من هذه الحقيقة استعد لما بعده.

يقول ابن الجوزي رحمه الله:

إني أعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه كيف يطيب عيشه خصوصًا إذا علت سِنُّه؟

واعجبًا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج، أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه، قد أخرج سكين القوى وأنزل متغشرم الضعف، وقلب السواد بياضًا، ثم في كل يوم يزيد الناقص.

ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق الإخوان، وإن كان ذلك مزعجًا.

ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران.

وإنه لمما يسلّي عن الدنيا ويهون فراقها استبدال المعارف ثم تنكّره لمن حوله أو تنكّرهم له.

فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون، وفقراء كانوا يصبرونه ومحاسبين لأنفسهم يتورعون فاستبدل السفهاء عن العقلاء والبخلاء عن الكرماء.

فيا سهولة الرحيل، لعل النفس تلقى من فقدت، فتلحق بمن أحبت.

رابعًا: تولد خلق الحياء وتنميته من الله تعالى، لأن الإنسان إذا حاسب نفسه على التقصير ورأى نعم الله إليه نازلة ومعاصيه وذنوبه إلى ربه صاعدة قدَّر نفسه وهوانها، وتولَّد عنده خلق الحياء، والحياء من الله قائد لشكر نعمته وعدم جحودها فيقف عند حدوده.

خامسًا: الحث على العمل والازدياد منه.. فهي تدفع إلى العمل والجد والنشاط .. كيف ذلك؟

خذ مثالًا: المقصر في دروسه وعلومه، فإن الإنسان إن حاسب نفسه على تقصيره في مجال دروسه وما وصلت إليه حاله بسبب التقصير حثه ذلك ودفعه إلى التفوق وشحذ الهمة .. وكذلك الأمر في  الطاعات في جنب الله.

سادسًا: معرفة نعم الله سبحانه على العبد التي لا تعد ولا تحصى.. قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34] أي لا تطيقوا عدَّها ولا القيام بشكرها.

نعمة الإسلام، نعمة الهداية، الأمن، الصحة، القوة، الطمأنينة، الجسم، السمع، البصر، الذرية، سلامة العقل ... الخ .. نعم كثيرة وتَذَكُّر واستشعار هذه النعم تَعظُم في نفسه فيشكر الله على هذه النعمة.. ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].

قال الحسن: أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر، وقد أمر الله نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فإن ذلك شكرها بلسان الحال.

يقول ابن سعدي رحمه الله: الشكر هو اعتراف القلب بنعم الله، والثناء على الله بها، وصرفها في مرضاة الله، وكفر النعمة ضد ذلك.

وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان وهي: الاعتراف بالنعمة باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، والاستعانة بها على طاعة الله.

فالشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، فالقلب للمعرفة، والمحبة واللسان للثناء والحمد، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.

سابعًا: ويتبع معرفة نعم الله: الصبر .. عندما يرى شيئًا من البلايا فلا يتسخط ولا يجزع، فتأمل هذه النعم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».

يروى عن سعيد بن جبير أنه قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصابه منه، واحتسابه عن الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع العبد وهو يتجلد لا يُرى منه إلا الصبر.

إن الله سبحانه جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وجندًا غالبًا لا يهزم، وحصنًا حصينًا لا يهدم، فهو والنصر أخوان شقيقان، وقد مدح الله عز وجل في كتابه الصابرين، وأخبر أنه يؤتيهم أجرهم بغير حساب، وأخبر أنه معهم بهدايته ونصره العزيز، وفتحه المبين، فقال: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾  [الأنفال: 46] وبشر الصابرين بثلاث، كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155 الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿156 أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155-157].

ثامنًا: دوام الخشية لله، ولا يزداد منها الإنسان، إلا إذا ازدادت معرفته به، ولا تزيد إلا إذا حاسب نفسه، ولذلك من كان لله أعرف كان له أخشى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].

قال الشوكاني رحمه الله:

إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له، ومن لم يخش الله فليس بعالم. والمراد بهذا العلم: العلم بكيفية اختلاف الألوان ونحوها من أفعال الله تعالى، فإن خشية من يعلم ذلك وهو مؤمن أعظم من خشية غيره.

قال ابن عباس: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا».

وقال مسروق: كفى بخشية الله علمًا وكفى بالاغترار بالله جهلًا.

تاسعًا: استصغار العمل وكبر النعمة فيرى أن عمله في مقابل ما يعطيه الله سبحانه وتعالى أقلّ.

لك أن تتصور مثلًا: نعمة المال التي أعطاك الله  .. كم تبلغ أموالك؟ وإن بلغت أمثال الجبال فإنه لا يلزمك إلا ربع العشر في الزكاة.

إن الله تفضل عليك بإفاضة هذا المال بين يديك، ولم يكلفك إلا بأداء القليل، فعملك قليل صغير، والنعمة أكبر وأكثر من ذلك الذي تؤديه.

وقس على هذه النعمة بقية النعم كنعمة الجوارح من سمع وبصر وشم، ونعمة الأمن، وقبلها وبعددها نعمة الهداية إلى هذا الدين وغيرها من النعم التي لا تعد ولا تحصى.

عاشرًا: محاسبة النفس تورث التوبة والندم، وهذه أعظمها، ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارق العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحب معه، ونزل له، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته.. وقد قال تعالى: ﴿زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور:31].

وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان، وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة، وأتى بكلمة «لعل» إيذانًا بأنكم إذا تبتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون .. جعلنا الله منهم .

الحادي عشر: يتبع ذلك تخفيف الحساب وتيسيره كما سبق في أثر عمر بن الخطاب ا، وهذه والله من أعظم النعم وأفضلها وأجلها، وأما الذي لا يحاسب نفسه ويهملها كان من الخاسرين، ولو لم يكن إلا هذه لكفت.



بحث عن بحث