الوقفة الثامنة

ميادين المحاسبة

عرفنا مما سبق أهمية محاسبة النفس ودعوة الكتاب والسنة لها.. ولكن يا ترى يحاسب العبد نفسه على ما ذا؟ ومتى؟ وعلى أي شيء؟

حتمٌ على كل ذي عزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاته وسكناتها وخطراتها؛ فإن كل نفَس من أنفاس العمر جوهرة لا عوض لها.

قال الحسن البصري:

المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه.

وقال: إن المؤمن يفجأه الشيء يعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدًا إن شاء الله تعالى.

واعلم: أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه، كذلك ينبغي أن يكون له ساعة يطالب فيها نفسه في آخر النهار، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم، ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفي الربح، وفي الخسران ليتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وليحاسبها أولًا على الفرائض، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها ليستوفي منها ما فرط.

فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح، ينبغي أن يفرِّغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه فيقول للنفس: ما لي بضاعة إلا العمر فإذا فني رأس المال وقع اليأس في التجارة، وطلب الربح وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأخّر أجلي وأنعم عليّ به، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل فيه صالحًا، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك إياك أن تضيعي هذا اليوم.

فعلى العاقل أن يحاسب نفسه على جميع الأقوال والأعمال والأوقات وأذكر هنا أمثلة على ميادين محاسبة العبد نفسه:

في الواجبات والفرائض:

فرض الله فرائض وحدَّ حدودًا فيعمل العبد هذه الفرائض ويقف عند هذه الحدود؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام، وواجباته تجاه إخوانه المسلمين، الأمر بالمعروف وغيرها، يحاسبها قبل العمل لتجديد النية واستحضار أهمية العمل وعظم الأجر فيه، ويحاسبها بعد العمل ليتبين له الإحسان من التقصير؛ إن قصر في الطاعة فيتوب ويؤوب ويرجع، وإن كان قد أحسن فيحمد الله ويسأله المزيد. والمحاسبة على الفرائض أهم شيء يحاسب العبد نفسه فيها.

في النوافل والمستحبات:

يحاسب نفسه على ما يفعله منها قبل العمل وبعده .. وهل تجرد لله؟ وهل الفعل أفضل أم الترك؟ وكذا المحاسبة على الأفعال المباحة، وكذا المحاسبة على ترك المحظورات.

المحاسبة على الوقت وتنظيمه .. وهذا الذي ورد به الحديث «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه» الحديث.

وهنا يأتي التنبيه على أمور:

1- استغلال المواسم والمناسبات اليومية والأسبوعية، والشهرية والسنوية.

2- استغلال الأوقات الفاضلة.

3- توزيع الواجبات على الأوقات.

4- عدم تأخير أعمال اليوم إلى الغد.

5-استغلال الصحة والقوة.

المحاسبة على الحواس والجوارح كالعين والسمع والأذن واللسان واليد والرجل والتفكير والتخطيط والقراءة.

محاسبة العبد نفسه على مهمته التربوية والاجتماعية كحاله مع والديه وعلاقته بهما، ومع أسرته وأولاده وتربيته لهم، ومع أقاربه وجيرانه وأصدقائه والآخرين بعامة.

*  *  *

ومن وجه آخر ينبغي أن يعلم أن محاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوع بعده.

أما النوع الأول:  فهو أن يقف عند أول همِّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.

قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره تأخر.

والنوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي، وحق الله في الطاعة ستة أمور هي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشهود مشهد الإحسان، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.

فيحاسب نفسه هل وفَّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟

الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.

الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح لم فعله؟! وهل أراد به الله تعالى والدار الآخرة، فيكون رابحًا أو أراد به الدنيا وعاجلها، فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به، وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولًا على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.

ثم يحاسب نفسه على الغفلة؛ فإن كان قد غفل عما خُلِق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت به رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه، ماذا أردت بهذا ولم فعلته ولمن فعلته، وعلى أي وجه فعلته؟ لكل حركة وكلمة ديوانان: لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟

فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة.

وهكذا يتبين لنا أن ميادين المحاسبة كثيرة، فعلى المسلم أن يتأملها ويوقف نفسه ويصارحها بكل جرأة وإقبال حتى يصل إلى الغاية المنشودة التي يريدها ويسعى لتحقيقها.

وهنا أقترح أن يضع الإنسان لنفسه برنامجًا يحاسب فيه نفسه، يتضمن هذا البرنامج الخطوات الآتية:

1- في هذا اليوم يخطط ليومه القادم أو لغده ويوزع عليه أعماله.

2- في نهاية يومه، ينظر ماذا أنتج وقدم:

-   هل أدى الصلوات جماعة في المسجد؟

-   هل أتى بالواجبات الأخرى كبر الوالدين؟

-   هل وصل رحمًا في هذا اليوم؟

-   هل تصدق بشيء من ماله؟

-   هل قام بوظيفته خير قيام؟

-   هل عمل نفعًا للآخرين كصدقة أو بر أو إحسان؟

-   هل قام بواجباته الأسرية من حقوق الزوجة والأولاد؟

-   ما الأخطاء التي وقع فيها هذا اليوم؟

وهكذا فإن وجد خيرًا فليحمد الله، ويسأله المزيد، وإن وجد غير ذلك يتوب ويعزم ويحاول أن يعوِّض، وهكذا البرنامج الأسبوعي، تكون أسئلة أعم من ذلك .. مثلاً:

- ما هو مقدار ما قرأ من القرآن الكريم؟

- هل أتى بالأذكار اليومية؟

- هل قرأ من العلم النافع؟

- هل أدى الواجبات الأسرية؟

- هل استفاد من يوم الجمعة واستغله كما ينبغي؟

وهكذا يكون الحال مع البرنامج الشهري، والسنوي أيضًا، فإن من يقوم بذلك يصبح الأمر يسيرًا عليه، وسوف يؤدي ولا ريب إلى نتائج باهرة في الدنيا والآخرة بإذن الله.



بحث عن بحث