الوقفة العاشرة 

الوسائل المعينة على المحاسبة

لا شك أن المحاسبة عمل إيجابي مثمر .. فكيف نحييها في أنفسنا، ونواظب عليها، وتصبح أمرًا مألوفًا في حياتنا.

هناك جملة من الوسائل المعينة على ذلك .. أجملها فيما يأتي:

1- التخطيط ووضع البرنامج لهذه المحاسبة، فله أثر كبير في تصور الموضوع.

فلكي تتفاعل مع الموضوع، أي موضوع، لا بد وأن تتصوره وتدرك أهميته ونتائجه.. فإن كان الموضوع تجاريًّا أن تحسب حساب هذه التجارة والربح والخسارة، ولكي يكون المشروع ناجحًا لابد وأن تحسن التخطيط، فعليك بجودة التخطيط ليقوم البنيان عظيمًا قويًّا؛ وذلك مثل تلك الأسئلة التي سبق ذكرها فتصيغها بحسب وضعك ثم تناقش نفسك فيها، فمع التخطيط ووضع البرنامج يكون الأمر سهلًا وميسورًا.

2- تزكية النفس وتهذيبها بالمحافظة على العبادات الشرعية وجوبها ونفلها .. وهذه أولى الدرجات.

فعليك بتطهير النفس بادئ ذي بدء بأداء الفرائض ثم النوافل والمستحبات، وترتقي بنفسك حتى تسرح بها في الدرجات العلى، وتصبح روحك شفافة حساسة تتمتع بعُسيلة الإيمان. وهذا من أكبر العوامل المعينة على تلك المحاسبة؛ لأن أهم عمل واجب عليك هو ما افترضه الله عليك، وما قام عبد بذلك وحافظ عليه إلا أُعين على ما سواه.

3- الدعاء ليلًا ونهارًا باستمرار مهما تكاسل الإنسان وتخاذل .. وهذا سلاح عظيم وسهم لا يخيب.

والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة وعظيمة، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  ﴾ [غافر:60]. فعُدَّ الدعاء عبادة من استكبر عن أدائها استحق الوعيد، فهو باب عظيم يستوجب عليك طرقه، وحري بمن أطال الطروق والوقوف أن يفتح له.

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
حـاشا لجودك أن يقنِّط عاصيًا
ثم الـصـلاة على النـبـي وآله


  ولـئـن رددت فـأي باب أقـرع
إن كان فضلك عن فقيرك يمنـع
فالفضل أجزل والمواهـب أوسـع
خـيـر الأنـام ومـن بـه يتـشفع


قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال، وليكن له أنس في خلوته به، فإن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش، ومن كان هكذا كان في العيش الرغد غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة التقوى، فإنه لا يصلح الأنس إلا بها.

ولا شك أن الدعاء من أنفع الوسائل وأنجع الأساليب للحصول على أي شيء يريده الإنسان مع عمل الأسباب، فألحّ على الله تعالى بالدعاء ييسِّر لك ما عسر على غيرك.

4- كثرة الحمد والشكر لله عز وجل .. وهي من مهمات الأمور، ومن أعظم العبادات التي يحبها الله جل وعلا، يحب من عبده أن يحمده ويشكره على كل صغير وكبير قولًا وفعلًا، وإذا نظرت إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم   تجد ذلك جليًّا في سيرته صلى الله عليه وسلم  فقد كان أعظم الشاكرين. والمحاسبة تحتاج إلى ذلك، فمن حمد الله وشكره لم يخب مراده، وتيسر له أموره.

5- العلم النافع.. فبه تسمو الأرواح وتعلو، ويتقرب به العبد إلى الله تعالى، فهو من أعظم القربات وأجل العبادات، وهو طريق رفع الجهل عن النفس، وبه يعبد الله على بصيرة، ومن حمل العلم تبصر بالمحاسبة واتضحت له وسهلت عليه وعرف طرقها وأساليبها.

6- التدرج في التطبيق كالمحاسبة اليومية أولًا لفترة من الزمن ثم أسبوعية ثم شهرية، وهكذا تدرج بنفسك واصعد بها سلم المحاسبة درجة درجة حتى لا تهوي منك إلى القاع أو تتمرد عليك، فهي بطبيعتها أبية تحتاج إلى سياسة حكيمة.

7- استغلال المناسبات الكبرى، كرمضان والحج، ونهاية العام والمناسبات الأخرى كالجمعة.. فعليك باستثمار هذه الفرص وتلك المناسبات للمحاسبة. فهي من أعظم الوسائل وأنفعها ولو لم تحاسب نفسك إلا فيها لكانت مؤدية للغرض وموصلة إلى ما تطمح إليه النفس بإذن الله تعالى.

8- اختيار الصحبة الخيرة .. فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه وضعيف بنفسه قوي بإخوانه، فأنت إن أحسنت اختيار الصحبة كانت لك عونًا على نفسك.

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه           فـكل قـرين بالمقارن يـهتـدي

فإن كانت الصحبة طيبة أعانتك على سبل الخير، ومنها محاسبة لنفسك وتفتيشك عليها، وتصحيح أخطائك ومسارك في هذه الحياة.

9- الخلوة بالله تعالى والعمل الخاص بينك وبينه، فإن هذا أدعى للخشوع واستشعار المراقبة، وأعظم منزلة وأجرًا عند الله جل وعلا وأكثر عونًا على الملمات والصعوبات وطريق للمصارحة والمكاشفة مع النفس.

والمراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي «المراقبة» وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت، وكل لحظة، وكل نفس وكل طرفة عين، فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نورًا يجد به حلاوة الإيمان.

10- التأمل في كتاب الله تعالى .. وقد جاءت الدعوة للتفكر والتدبر في غير ما موضع في كتاب الله:

«أفلا يتدبرون» «أفلا يتفكرون» «لعلكم تعقلون» وهي من أبرز صفات أولي الألباب .. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190-194] كان صلى الله عليه وسلم  يقرؤها إذا استيقظ ليلًا ويقول: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر».

11- قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم  فهي أعظم سيرة في التاريخ، اقرأ سنته وسيرته واتبعها؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم ويتعبد لربه عز وجل حتى تتفطر قدماه ويُراجَع في هذا فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» هذا وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. فما بالك بنا نحن؟!

من كان يرغب في النجاة فما له
ذاك الـسـبيـل المستقـيـم وغيـره
فاتبـع كتـاب الله والسنـن التي
ودع الـسـؤال بـكم وكـيف فإنـه
الـدين مـا قـال الـنـبـي وصحبه

  غـيـر اتـبـاع الـمصطفى فيما أتى
سـبـل الغـواية والضلالة والردى
صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
باب يـجر ذوي الـبـصيرة للعمى
والـتـابـعـون ومـن مـناهجهـم قفا


12- تذكر الموت وما بعده .. فإذا ما استحضر العبد رحلته إلى الدار الآخرة، وأن هذه الدنيا ما هي إلا معبر وممر إلى الآخرة حري به أن يحاسب نفسه ويعقبها ويعاتبها في عاجل أمرها حتى تنجو في آخره.

13- استحضار النية في كل عمل ولو كان مباحًا، فاستحضارها تجديدٌ لها وتنقيتها من شوائب النفاق والرياء وعدم الإخلاص، وعون على استمرارها على الخير.

14- النظر في أمور الآخرة إلى الأعلى؛ علو الهمة .. فكن عالي الهمة تطمع إلى المعالي وخاصة في أمور الآخرة، فأنت إن كنت عالي الهمة سوف تحاسب نفسك على تقصيرها ولا شك؛ فلتحاول الرقي إلى الدرجات العلى.

15- إلزام النفس وقهرها على البرنامج اليومي، لأنك إن تركت نفسك وما تشتهي قادتك إلى الهلاك.. فالزمها مثلًا بحفظ كتاب الله وقراءته يوميًّا، وستجد ثمرة ذلك على نفسك ولو بعد حين، كذا غيره من الأعمال مما تطيقه.

16- اجتناب مجالس اللهو والعبث .. فالعمر أثمن من أن يضيع سدًى في تلك المجالس العابثة المضيعة للوقت والعمر، والذي ستحاسب عليه: «عن شبابك وعن عمرك»، فهل ستكون إجابتك: بأني قضيت وقتي في اللهو والعبث وأمام المسلسلات والمغريات والمحرمات، إنها إجابة صعبة فتدارك نفسك قبل الوقوع في الهاوية.

17- تنمية الموهبة التي رزقك الله تعالى إياها، فكل إنسان أنعم الله عليه بموهبة، فإذا استغلها ونمّاها أثمرت ثمارًا يانعةً، وأعانته على الرقي والمواصلة في سبل الخير، فمثلًا أنت تهوى القراءة فضع لك برنامجًا في هذا الميدان وواصل فيه واعرف ماذا تقرأ وكيف تقرأ، فما هو إلا زمن يسير وتصبح من كبار القراء والكتاب، وهكذا يقال لصاحب الموهبة الهندسية والفنية..

18- تذكر عقوبات الإهمال، فإذا أهملت في حياتك وقصرت في العبادة والطاعة أو ارتكبت المنهيات والمكروهات كل هذا تستحق العقوبة فيه بالنار، وكلٌّ بحسب تقصيره أو فعله للمنهيات وارتكاب المحظورات، ولكن تذَكَّر دائمًا عقوبة الإهمال، فكما تتذكرها في إهمال أمور الدنيا تذكرها في أمور الآخرة، ومن ثم ستحاسب نفسك حسابًا يقودك إلى الفوز والفلاح.

19- المداومة على فعل الخير، كالصدقة والتبرع وتحفيظ القرآن الكريم ونشر الخير ومساعدة الآخرين، ففي ذلك تزكية للنفس وقربة لله تعالى.

20- وأخيرًا .. المجاهدة والمغالبة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

وهذه الوسيلة هي رفيقة الدرب على مدى الأيام والأوقات فأنت بحاجة لها في فعل الخير وترك الشر، في القول والعمل، في السرِّ والعلن.



بحث عن بحث