العقل وموقف الإسلام منه

الخطبة الأولى

الحمد لله خلق الإنسان في أحسن تقويم، فهو الخلاق العليم، وتبارك الله أحسن الخالقين، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه وفضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهو الرؤوف الرحيم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه الغزيرة، وآلائه الجسيمة تفلحوا وتفوزوا في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون: نعمة كبرى من نعم المولى جل وعلا على هذا الإنسان حيث خلقه فأحسن خلقه، وصوره فأحسن تصويره، وفضله على سائر مخلوقاته، وأكرمه بالعقل والتفكير والتفكر، ليكون محل الاعتبار والتدبير والتدبر والإفادة من هذا العقل لسعادة الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون: إن الإسلام كرم الإنسان بالعقل، وجعله مناط التكليف في سائر المسؤليات الدينية والدنيوية، إذ به يهتدي الإنسان إلى الحقائق الكبرى التي دعا الله جل وعلا إلى الوصول إليها بالبراهين العقلية، فالعقل يرشد كل من تدبر في الكون المنظور إلى وجود الله وصفاته، ومن ثم إلى ضرورة عبادته، والقيام بواجباته ومسؤلياته، يقول جل وعلا: ) إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب( [آل عمران: 190]، كما أن العقل يسترشد به الإنسان في هذه الدنيا لما ينفعه، فيعرف به الصالح والطالح، والنافع والضار.

أيها المسلمون: قد سما الإنسان بعقله على سائر الحيوانات المخلوقة، التي خلقها الله جل وعلا، وأشبه الملائكة لما استخدم هذه النعمة من نعم الله جل وعلا، إلا أن كثيرا من الناس أفرط فيه فقدمه على الشرع وغلا فيه فاغتر بذلك، فحصل الزلل والخلل والضلال، والبعض زهد فيه ولم يهتم به واعتبر الحديث فيه وعنه من منهج أهل الضلال، وهذا أيضا قد جانبه الصواب، والشريعة الإسلامية لا تغالي في العقل ولا تجافيه، بل تجعله في مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه، وما أعطاه الله جل وعلا من القدرة فيه، فلا يُعطى من الأفكار إلا ما يناسب قدرته واستيعابه فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».

ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحيفة من التوراة في يد عمر رضي الله عنه، وقال له: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني ».

أيها المسلمون: على المسلم أن يعرف محدودية عقله، وأن لعقله حدودا لا يستطيع أن يتجاوزها، فإن "الله سبحانه جعل للعقول في إدراكها حدًّا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبلا إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدارك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون" قاله الإمام الشاطبي رحمه الله.

وهذه الحقيقة قاعدة تربوية عظيمة الأثر، إذ تؤكد أن الإنسان وإن كان مبدعاً في جانب فلا يعني تفوقه في كل الجوانب ولو عرف كل إنسان محدودية عقله لما تكلم صاحب فن في كل فن، لاسيما ما نراه من تطاول كثير ممن أطلقوا العنان لألسنتهم على النصوص الشرعية أو على علماء الشريعة في تخصصهم، أو على النبي صلى الله عليه وسلم فيما شرعه لأمته فضلا عن أن يكون الحديث عن الباري سبحانه، تعالى عما يقوله السفهاء علوا كبيرا.

أيها المسلمون: أُمر الإنسان أن يحافظ على عقله، وجعل الإسلام هذه المحافظة من مقاصد الشريعة الكبرى التي منها حفظ العقل، ونهى عن فساده أو إفساده بأي نوع من أنواع الفساد والإفساد، وحرَّم الله جل وعلا ذلك ورتب عليه عقوبة شديدة حفظًا وصيانة له حتى لا يعتريه ما يعتريه من الفساد.

أيها المسلمون: ومن فساد العقل وتعطيله وإلحاده عن مساره أن يتأثر بكل فكرة جديدة فيصير مفكرًا بتفكير غيره، ويعطل عقله عن الأفكار المستقاة من الشريعة ويملأه بأفكار غيره المنحرفة، فيفكر بتفكير غيره، ويتحرك بتوجيه غيره، ويعمل بأوامر غيره دون أن يسأل عن هذا الموجه أو الناصح أو صاحب تلك الأفكار فينتج عن هذا وذاك تدمير في السلوك والأخلاق فضلا عن العقائد، ومن هذا المسلك الخطير ما يحدث ما لا تحمد عقباه، وهذا مر على مدار التاريخ وللأسف فأصحابه ضلوا وأضلوا، أما من عصمه الله فإنه تمنى أن يموت على دين العجائز كما قال بعضهم: "اللهم دينًا كدين العجائز" يعني أموت على الفطرة والتوحيد، فلا يستخدم المسلم عقله فيما هو أكبر منه، أو يتلقى أفكار غيره من اليهود أو النصارى أو أصحاب الملل الأخرى أو الملحدين فإنها في أيدي ناس غير أمينين على دينهم، وقد فهم الإمام مالك رحمه الله هذا المعنى فقال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، وكذا قال غيره من السلف رحمهم الله تعالى، فليجتهد المسلم في حفظ هذه القيمة العلية الزكية وليرعها حق رعايتها فبذلك النجاة من الهلاك، والسلامة من المنغصات ومن المهالك في الدنيا والآخرة.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

!  !!

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: اعلموا أن الانحراف العقلي ينتج عن خلل في البناء الفكري، وهذا الخلل قد يعود إلى أمور كثيرة من أهمها؛ الجهل بالله تعالى القائم على الجهل بأصول التشريع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو الإعراض عن الأخذ بهذه الأصول أو أحدها والوقوف عندها.

ومنها: تقليد الغير على غير هدى الله تعالى، وعلى غير منهج رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلكم عباد الله، ومن أعظم الأسباب: اتباع الهوى وشهوات النفس، وشبهات المضلين.

أيها المسلمون: كما أنه لا يجوز للمرء أن يؤثر على هذا العقل بتأثيرات فكرية مضللة تهوي به في سحيق الردى، فكذلك لا يجوز أن يؤثر عليه بتأثيرات حسيه كبعض المأكولات والمشروبات والعقاقير التي تغيبه وتعطله عما حباه الله به، فيقصر عن أداء واجباته في الدلالة على الحق والخير، وتبصير الإنسان فيما يصلح له دنيا وأخرى.

يقول سبحانه وتعالى مؤكدًا هذه الحقيقة بمجمل تأكيدات ومنهيات ) يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون(. [المائدة: 90- 91]

كل ذلك عباد الله شر وفتنة أيا كان نوعها من أنواع المسكرات أو المخدرات التي تقضي على عقل المرء وتفسده وتحكم عليه بالضعف التام أو بالإعدام نهائيًا وما شابه تلك المسكرات والمخدرات أو الملهيات أو المفترات أو ما يبعد الإنسان عن منطق التفكير الهادي إلى الله جل وعلا.

فاتقوا الله عباد الله، ولا تقربوا ما يضركم من الأخلاق الرذيلة، فلا خير فيمن غلبت شهوته عقله فألقته في المهالك الوبيلة، وكذلكم ما يطرأ من الشبهات في النت أو الفضائيات أو غيرها وبخاصة إذا لم يكن الإنسان على علم شرعي لتفنيدها.

فكروا عباد الله وبخاصة أنتم أيها الشباب في المصالح والمنافع، فاسلكوا سبيلها وزاحموا بها النفوس العالية المقبلة على الخير، ونافسوها وإياكم أن تكون هممكم في تحصيل الأغراض الدنيئة فتخسروا عقولكم وتضيعوها.

طوبى لمن كانت أفكاره حائمة حول ما يحبه الله، دائرة على ما ينفع عباد الله.

والإخلاص الإخلاص في كل الأمور، فاجعلوها شعاركم.

والإحسان المتنوع على الخلق دثار ذلك، طوبى لمن كانت شهوته تبعًا لعقله فآثر دينه على دنياه، واستمتع بدينه ودنياه، ومن ثم في آخرته، فالله سبحانه وتعالى بعث إلينا الرسل وأنزل الكتب لسعادة الدارين، فاتبعوهما تسعدوا في دنياكم وأخراكم.

ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والهادي إلى السراج المنير كما أمركم الله جل وعلا في كتابه الكريم حيث قال: ) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما(] الأحزاب: 56[.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

!!!



بحث عن بحث