سادسًا: صور من الإيجابية في حياة

النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف من الصحابة وغيرهم

كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة على الإيجابية في مناحي الحياة المختلفة:

ـ فقد كان عليه الصلاة والسلام قوَّامًا متعبّدًا، يعبد الله حتى تتورم قدماه، رغم مغفرة الله لما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وقد سألته أم المؤمنين عائشة ك عن ذلك، فقال: «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا».

ـ كان عليه الصلاة والسلام خير الناس لأهله، يرحمهم ويحبهم ويقوم ببعض الأعمال داخل البيت، فهو القائل: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» وقالت عائشة ك عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم».

ـ كان عليه الصلاة والسلام عادلاً بين زوجاته، لم يفضل إحداهن على الأخرى، قالت عائشة ك: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه».

ـ كان عليه الصلاة والسلام رحيمًا بالصغار يلاعبهم ويمزح معهم ويدخل السرور في قلوبهم، فيقول: «يا أبا عمير ما فعل النُّغَيْرُ»، وقالت عائشة ك: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتي بالصبيان فيدعو لهم فأُتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله».

ـ كان عليه الصلاة والسلام رحيمًا بصحابته رضوان الله عليهم، يقدّر منازلهم ويسمع لكلامهم، وقد قال عنه الله تعالى في ذلك: âلَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌá.

ـ كان عليه الصلاة والسلام يستشير أصحابه رضوان الله عليهم، في الأمور الصغيرة والكبيرة، كما حدث في غزوة بدر، وغزوة الخندق.

ـ كان عليه الصلاة والسلام يريد الهداية للناس جميعًا، فيحاور المشركين واليهود بالتي هي أحسن.

ـ كان عليه الصلاة والسلام عفوًا رحيمًا مع أعدائه في الحروب وفي السلم، في حالة الضعف وحالة القوة، فقد دعا لأهل الطائف الذين آذوه وطردوه بالهداية، فقال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»، كما أنه عليه الصلاة والسلام أعفى عن أهل مكة الذين قتلوا أصحابه وعذّبوهم وطردوهم إلى المدينة، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ـ كان عليه الصلاة والسلام ذو أخلاق عالية في كلامه وسلوكه، فلم يكن سبّابًا ولا لعّانًا، قال أنس بن مالك ط: «لم  يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه».

ـ كان عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في كل حركاته وسكناته، قال الله تعالى: âلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاá.

ـ كان عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الخير ويأمر به، ويكره الشرّ وينهى عنه، حتى في أصغر الأشياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرّ رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق، فقال: والله لأنحينَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة». وقال في موضع آخر: «اتقوا اللّعّانين»، قالوا: وما الّلعانان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم».

وغير هذه الإيجابيات كثيرة وكثيرة، فسيرة النبي عليه الصلاة والسلام هي مثال الإيجابية بكل معانيها وأشكالها، بالأقوال والأفعال، والإقرار.

*   *   *

ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أخذوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفات والخصال الإيجابية، حيث كان قدوة لهم ومثالًا عمليًا أمامهم، فهم الذين قال عنهم الله تعالى: âكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ á.

فلم يكن عجيبًا أن يضرب جيل الصحابة ـ بعد هذا الثناء الرباني ـ أروع المثل في العمل الإيجابي بكل أشكاله.

فهذا أبو بكر ط قال عند استلامه الخلافة: «القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق».

ويأبى ط أن يمكث الطعام الحرام في جوفه وهو الخليفة التي دانت له الأرض، قالت عائشة ك: «كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان  أبوبكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ قال أبو بكر: ما هو؟ قال: كنت تكهنتُ لإنسان في الجاهلية ـ وما أحْسِنُ الكهانة ـ إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني هذا الذي أكَلْتَ منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه».

وكان ط مثالًا في الكرم والسخاء حين ينفق في سبيل الله، قال عمر ط: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي. قلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك»؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك»؟ قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله، فقلت: لا أسبقه إلى شيء أبدًا».

وهذا عمر بن الخطاب ط حين استلم الخلافة قال: «اللهم إني شديد فليّني، وإني ضعيف فقوّني، وإني بخيل فسخِّني».

قال خزيمة بن ثابت: كان عمر إذا استعمل عاملًا كتب له، واشترط عليه ألا يركب برْذَونًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلَّت عليه العقوبة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجّك».

وغيرها من الأمثلة الكثيرة لرجالات هذه الأمة من السلف الصالح، الذين ضربوا أروع الأمثال والنماذج في العمل الإيجابي مع أنفسهم وأهليهم، ومع الناس من حولهم، ومع غيرهم من الأمم والشعوب.



بحث عن بحث