عاشرًا: الانطلاق للبداية

إن نقطة التغيير التي ينبغي الانطلاق منها تكمن في النفس، ولا يمكن تحقيق أي عمل إيجابي من غير قناعة داخلية تدفع صاحبها للقيام بهذا العمل والسعي من أجله وبذل الأوقات والجهود لتحقيقه في أحسن صوره، ومن أهم النقاط التي تحتاج إلى التقويم والتصحيح داخل النفس لسلامة العمل وإدخاله في دائرة الإيجابية ما يلي:

1 ـ القناعة بأن أكون إيجابيًا:

هذه الخطوة النفسية الأولى التي ينبغي تحقيقها من أجل إيجاد العمل الإيجابي على الواقع، ويأتي ذلك من خلال الإيمان بالله تعالى والعمل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من حثّ على الطاعات، والإحسان إلى الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وكذلك الإخلاص في العمل والإتقان فيه، وغير ذلك من الأعمال التي تدخل في دائرة الإيجابية، فالإيمان بهذا المبدأ هو اللبنة الأساسية لسائر اللبنات التي تقوم عليها، وقد أثنى الله تعالى على عباده الذين آمنوا به ثم أتبعوا هذا الإيمان بالعمل الصالح الإيجابي بأنهم خير الناس وأنفعهم على الأرض، فقال: âإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِá.

2 ـ وضوح التصور نحو أهمية العمل الإيجابي:

لا يستطيع الإنسان أن يتحرك إلى الأمام وإلى تحقيق الأهداف المنشودة، إذا لم يكن لديه وضوح في التصور عن طبيعة العمل الإيجابي، وأهميته وضرورته في عمارة الأرض، ومن ثم الوصول إلى الطموحات العلمية الكبرى والغايات الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية العظيمة، لذا كان النص القرآني واضحًا للمؤمنين حين لفت انتباههم إلى هذه الخطوة المهمة للانطلاق بشكل صحيح وسليم، قال الله تعالى: âأَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ á ، وقال أيضًا: âö@è% قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَá .

3 ـ تحديد الأهداف:

يأتي بعد القناعة بالعمل الإيجابي ووضوح التصور عنه، تحديد الهدف الذي من أجله يقوم الإنسان بهذا العمل، وينقسم الهدف من العمل الإيجابي إلى قسمين:

أ ـ الهدف الدنيوي: وهو كل ما يتعلق بحياة الإنسان الدنيوية، من تربية الأبناء وتعليمهم للمستقبل الزاهر، والوصول إلى شهادات علمية عالية، أو مناصب وظيفية معينة، وكذلك تحسين الأحوال المادية بالتجارة والزراعة والصناعة، وأيضًا تنمية المواهب والمهارات الكامنة للإبداع والابتكار في التخصصات العلمية والتقنية المختلفة، وغيرها من الآمال والأهداف التي يسعى الإنسان - عادة - إليها في الدنيا.

ب ـ الهدف الأخروي: وهو رضى الله تعالى والقرب منه ودخول جناته، والنجاة من عذابه وعقابه، والطريق إلى ذلك هو الإيمان بالله تعالى وما يقتضيه من التزام بأوامره في إقامة الفروض والواجبات والقيام بالأعمال الصالحة، والانتهاء عما نهى الله عنه من المعاصي والمنكرات.

ويستطيع الإنسان أن يسخّر الهدف الدنيوي للوصول إلى الهدف الأخروي حين يخلص النية لله تعالى ويدرك أن ما يقوم به إنما هو عبادة لله حين استخلفه في الأرض وحدّد رسالته فيها بقوله: â وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِá .

4 ـ تحديد الوسائل والأعمال:

من أهم ما يميّز العمل الإيجابي عن غيره أن تكون أدواته وآلياته مشروعة، وهذا يعني ضرورة تحديد الوسائل التي تعين على العمل الإيجابي وطرقه، بحيث لا تخالف نصًّا شرعيًّا من الكتاب أو السنة أو إجماع أهل العلم، فأي ممارسة خاطئة بمعصية أو اعتداء على حقوق الناس أو ظلمهم، لا يعدّ عملًا إيجابيًا، مهما كان الهدف نبيلًا أو ساميًا، إذ أن الغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة أبدًا، وهذه قاعدة أصولية ثابتة.

5 ـ الاستخارة والاستشارة:

إن الاستخارة والاستشارة أمران متلازمان نحو تحقيق العمل الإيجابي، وقد حثّ الشرع على الاستخارة، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله م قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني، قال: ويسمى حاجته».

كما حثّ الله تعالى على مبدأ الشورى حين أثنى على المؤمنين وذكر من صفاتهم الشورى فيما بينهم، فلا يقطعون رأيًا ولا يعتمدون قرارًا إلا بناء على استشارة أهل الرأي والخبرة من المؤمنين المخلصين، قال جلّ شأنه: âوَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ á.

وإقرار مبدأ الشورى يفيد في تحقيق أكبر النجاحات والأرباح، والحدّ الخسائر والانتكاسات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وإنما يسن له استخارة الخالق، واستشارة المخلوق، والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبيّن ما يحبه الله ويرضاه، وما يكره وينهى عنه».

6 ـ التقويم:

هو وضع العمل في ميزان التصحيح، وتحت المراقبة والمتابعة، لتقويم معوجّه وتثبيت صحيحه، ويمكن تحديد هذا التقييم أو التقويم من خلال مقياسَيْن اثنين:

أ ـ أن يكون العمل مشروعًا، فلا يُرتكب معه محرم أو معصية، أو لا يكون سببًا لترك الفروض والواجبات الشرعية، لأن كثيرًا من الناس يبررون تركهم لبعض الواجبات الشرعية وإهمالها بانشغالهم بأعمالهم ومسؤولياتهم، وهذا يخالف أصول الدين وثوابته.

ب ـ أن يكون العمل نافعًا، فأي عمل خال من المنفعة والمصلحة، سواء الدينية أو الدنيوية لا يدخل في دائرة العمل الإيجابي، لأنه يُعدّ ضياعًا للوقت، وإهدارًا للطاقات والقدرات.

وبذلك يمكن تقويم أي عمل ومراقبته وفق هذين المقياسين ليصبح عملًا إيجابيًا نافعًا للناس في الدنيا والآخرة.



بحث عن بحث