ثالثًا: استعمالات المفطرات:

الأول: الأكل والشرب ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا :

القول الأول: لا يفسد صوم من أكل أو شرب ناسيًا أنه صائم، وهو قول الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

دليلهم: حديث أبي هريرة ط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل ناسيًا وهو صائم فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه».

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، ولأنها عبادة ذات تحليل وتحريم، فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه كالصلاة والحج. ويستوي في ذلك الفرض والنفل؛ لعموم الأدلة.

القول الثاني: من نسي في رمضان، فأكل أو شرب فعليه القضاء، أما لو نسي في غير رمضان فأكل أو شرب، فإنه يتم صومه ولا قضاء عليه. وهو قول الإمام مالك .

ودليلهم: أن ركن الصوم ينعدم بأكله ناسيًا كان أو عامدًا، وبدون الركن لا يتصور أداء العبادة، والنسيان عذر بمنزلة الحيض والمرض، فلا يمنع وجوب القضاء عند انعدام الأداء.

ويرد عليه: بحديث أبي هريرة ط السابق، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وهو صائم» يشمل الفريضة، والنافلة.

وفي  قوله في الحديث «أطعمه الله» لم ينسب الفعل إلى الفاعل، بل إلى الله؛ لأنه ناسٍ لم يقصد المخالفة والمعصية، ولهذا نُسب فعله إلى من أنساه وهو الله عزّ وجل وهذا دليل خاص.

وللجمهور دليل عام، وهو قاعدة شرعية من أقوى قواعد الشريعة وهي قوله تعالى: âرَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَاá [البقرة: 286]. فقال الله تعالى: «قد فعلت»..

الثاني: من أكل أو شرب مكرهًا :

الإكراه: حمل الإنسان غيره على فعل أو ترك ما لا يرضاه بالوعيد.

القول الأول: يبطل صومه ويلزمه القضاء دون الكفارة، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك في الفرض،وقول للشافعية، وقول ابن عقيل من الحنابلة.

 ودليلهم: لأنه فعل ينافي الصوم، فبطل صومه كما لو أكل لخوف مرض أو شرب لدفع عطش، ويفارق الملجأ لأنه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه.

القول الثاني: وهو الراجح والله أعلم، لا يفسد صوم من أكره على الأكل والشرب ويجزؤه، وهو القول الثاني للشافعي، وهو المذهب للحنابلة، ومالك في صوم التطوع.

دليلهم: وفيه رد على أصحاب القول الأول: لقوله تعالى: âإِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ á [النحل: 106]. فإذا كان حكم الكفر يعفى عنه مع الإكراه، فما دون الكفر من باب أولى، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» يشمل هذه الصورة،.

وسواءً أكره على الفعل حتى فعله أو فُعل به، بأن صب في حلقه الماء مكرهًا أو نائمًا أو أدخل فيه ماء المطر كالناسي بل أولى بدليل الإتلاف.

الثالث: من أكل أو شرب جاهلاً:

الجهل: هو اعتقاد الشيء على ما هو عليه.

القول الأول: أن الجاهل بالتحريم يفطر بفعل المفطرات، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وقول للمالكية.

دليلهم: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم و المحجوم» في حق الرجلين اللذين رآهما يحجم أحدهما صاحبه مع جهلهما بتحريمه يدل على أن الجهل لا يعذر به، ولأنه نوع جهل فلم يمنع الفطر كالجهل بالوقت في حق من يأكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع.

القول الثاني: إن أكل جاهلًا بكونه مفطرًا، فإن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية وكان يجهل مثل ذلك لم يفطر. وهو قول الحنفية والشافعية وقول للحنابلة وقول للمالكية.

ودليلهم: قوله تعالى: âرَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَاá [البقرة: 286] وإذا انتفت المؤاخذة انتفى ما يترتب عليها، وهذا دليل عام.

وحديث عدي بن حاتم ط أنه أراد أن يصوم وقرأ قول الله تعالى: âوَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ á [البقرة: 187] فأتى بعقال أسود، - حبل تربط به يد البعير - وأتى بعقال أبيض، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل وينظر إلى الخيطين حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود» فهذا أخطأ في فهم الآية؛ لأن المراد بها أن الخيط الأبيض بياض النهار، والأسود سواد الليل، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره قال له: «إن وسادك لعريض أن وسع الخيط الأبيض والأسود» ولم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل لم يقصد مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فعذر بهذا.

يجاب عن أدلة أصحاب القول الأول:

 أنه قد ثبت في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر  م قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس» فأفطروا في النهار بناءً على أن الشمس قد غربت فهم جاهلون، لا بالحكم الشرعي ولكن بالحال، لم يظنوا أن الوقت في النهار، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم به؛ لأنه من شريعة الله وإذا كان من شريعة الله كان محفوظًا تنقله الأمة؛ لأنه مما تتوافر الدواعي لنقله، فلما لم يحفظ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأصل براءة الذمة، وعدم القضاء.

الرابع: طلوع الفجر في حال الأكل أو الشرب :

اتفق الفقهاء على أنه إذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فليلفظه، ويصح صومه فإن ابتلعه أفطر.

ودليله: حديث «إن بلال يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم». ثم قال وكانرجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت.

وقد سئل سماحة الشيخ عبد الله بن باز رحمه الله: ما الحكم الشرعي للصيام فيمن سمع أذان الفجر واستمر في الأكل والشرب؟

فأجاب: الواجب على المؤمن أن يمسك عن المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما إذا تبين له طلوع الفجر وكان الصوم فريضة كرمضان وكصوم النذر والكفارات لقول الله عز وجل: âوَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ á [البقرة: 187] فإذا سمع الأذان وعلم أنه يؤذن على الفجر وجب عليه الإمساك فإن كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر لم يجب عليه الإمساك وجاز له الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر . فإن كان لا يعلم حال المؤذن هل أذن قبل الفجر أو بعد الفجر فإن الأولى والأحوط له أن يمسك إذا سمع الأذان ولا يضره لو شرب أو أكل شيئا حين الأذان لأنه لم يعلم بطلوع الفجر.

ومعلوم أن من كان داخل المدن التي فيها الأنوار الكهربائية لا يستطيع أن يعلم طلوع الفجر بعينه وقت طلوع الفجر ولكن عليه أن يحتاط بالعمل بالأذان والتقويمات التي تحدد طلوع الفجر بالساعة والدقيقة عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»، .

الخامس: ذهاب الماء إلى الحلق أثناء الوضوء أو الغسل :

إن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف، اختلف فيه العلماء على قولين:

القول الأول: لا شيء عليه وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وهو مذهب الحنابلة.

القول الثاني: يفطر وهو قول الإمام مالك وأبو حنيفة والقول الآخر للشافعية .

دليلهم: أنه أوصل الماء إلى جوفه ذاكرًا لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه.

يرد عليهم: أنه وصل إلى حلقه من غير إسراف ولا قصد أشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه، وبهذا فارق المتعمد.

أما إن أسرف فزاد أو بالغ في الاستنشاق فقد فعل مكروهًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» ولأنه يتعرض بذلك لإيصال الماء إلى حلقه.

فإن وصل إلى حلقه، والحالة كذلك، ففيه قولان:

القول الأول: يفطر وبه قال أبو حنيفة والشافعي والإمام مالك وقول للحنابلة.

دليلهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المبالغة حفظًا للصوم فدل ذلك على أنه يفطر به ولأنه وصل بفعل منهي عنه فأشبه التعمد.

القول الثاني: لا يفطر به وهو المذهب للحنابلة. وهو الراجح والله أعلم.

 دليلهم:لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله، ويرد على أصحاب القول الأول: بأنك لو سألت هذا الذي تمضمض أكثر من ثلاث أتريد أن يصل إلى حلقك لقال: لا، فلا مجال للتعمد وتشبيههم إياه بالعمد لا يستقيم.



بحث عن بحث