4ـ عمل الطاعات المختلفة:

النفس إن لم تشغلها بما ينفعها، شغلتك بما يضرك.. فإن لم تشغلها بالطاعات، شغلتك بالمعاصي والملهيات.. وإن لم تقدها وتأخذ بزمامها إلى البر والتقوى، قادتك إلى الفجور والعصيان..

والعاقل يغتنم لحظات عمره بعمل الطاعات المختلفة ولا يضيع صحة جسمه وفراغ وقته بالتقصير في طاعة ربه، والثقة بسالف عمله.. بل العاقل يجعل الاجتهاد غنيمة صحته، والعمل فرصة فراغه، فليس كل الزمان مستعدًا، ولا ما فات مستدركًا.

فخير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشرهم من طال عمره وساء عمله.

قال ابن الجوزي رحمه الله: (دعوت الله يومًا فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحب من ذلك.. فعارضني وسواس إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟ فقلت له: يا أبله.. لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث.. أليس في كل يوم يزيد علمي، ومعرفتي فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم حصادي؟! أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة؟ لا والله لأني ما كنت أعرف الله –تعالى- عُشر معرفتي به اليوم...).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا».

وفي حديث جابر بن عبد الله م قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة».

وكلما نوع الإنسان في طاعته ـ بما يوافق الشرع الحكيم ـ كان أدعى لقبول النفس وإقبالها على الطاعات وعدم مللها.. وكلما ملّ؛ تذكر الثواب العظيم لمن جاهد نفسه على طاعته لربه فـ (هذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه، كما قال الله تعالى في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلًا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)).

هكذا سفر القلب وسيره إلى ربه: لا يجد فيه من الشقاء والنصب ما يجده في سفره إلى بعض المخلوقين، ولا يجهد نفسه، ويكلفها فوق طاقتها لئلا تنفر، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا».

وقال صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل».

والعمل الصالح وسيلة عظيمة لتكفير السيئات ومحوها فقد قال تعالى: âوَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا á [النساء 110].. وقال تعالى: âوَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ á [هود: 114].. وقال تعالى: âوَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿135 أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ á [آل عمران: 135-136].

وفي الحديث: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» وغيرها كثير مما يدل على فضل رحمة الله تعالى على عباده.. وكيف يتودد إليهم بالنعم، فمن أتاه يمشي، أقبل عليه هرولة..

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (من أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته).

أما إن ترك المعصية، ولم يُزِلها ويُزلِ أثرها من قلبه بفعل الطاعات والحسنات الماحيات، وجد أثر ذلك في قلبه مع مرور الوقت، فقسى قلبه وعلا عليه الران.. ففي الحديث: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه» وهو الران الذي ذكر الله: âكَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ á [المطففين: 14].

قال ابن القيم رحمه الله: (القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، ويعر كما يعرى الجسم، وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة).

وإذا كان هذا تأثير الذنوب والمعاصي والتكاسل في الطاعات فإن شأن المطيع مختلف.. فعلى وجهه النور وآثار عمله الصالح... ألا تجد نفسك تحب رجلًا لا تربطك به علاقة نسب أو صداقة عمر... وما ذاك إلا رائحة طيب أعماله، تجذبك إليه جذبًا..

قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما عمل رجل عملًا إلا ألبسه الله تعالى رداءه إن خيرًا؛ فخير وإن شرًا فشر)، حتى إن الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة، وإن لم يمس طيبًا، فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه، والفاجر بالعكس، والمزكوم الذي أصابه الهواء لا يشم لا هذا ولا هذا، بل زكامه يحمله على الإنكار.

وإذا كان هذا شأن الطاعات في كل وقت وزمان.. فإن لرمضان خاصية تميزه عن بقية الشهور، ففي حديث سلمان الفارسي ط مرفوعًا  إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «من تطوع فيه بخصلة من  الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه».

وفي الترمذي عن أنس رضي الله عنه، سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان».

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة» أو قال «حجة معي».

فهذا شأن شهر فضله الله تعالى وكرمه على بقية الشهور أفلا يستحق العناية والاهتمام والاجتهاد في استغلال لحظاته بالطاعات لئلا تنجرف أنفسنا نحو ما يغضب الرب الكريم، ونصير فيه ممن لا حظ فيه ولا نصيب.



بحث عن بحث