الخاتمة

ما بعـد الحـج

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله تقبل الطاعات، أحمده رضي الله عنه بحانه وأشكره وأشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد فقد مضى وانقضى الحج...ومضت أشهر الحج بخيراتها وبركاتها.

لقد مضت تلك الأيام وأوقع المسلمون فيها الحج، منهم المفترض ومنهم المتنفل ورجع المقبولون منهم مغفورة له خطاياهم كيوم ولدتهم أمهاتهم فهنيئًا للفائزين ويا رضي الله عنه عادة المقبولين âإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ á [المائدة: 27] وليعلم المسلم أن لقبول الطاعة علامات وأمارات، فمن علامة قبول الطاعة الطاعة بعدها ومن علامة ردها السيئة بعدها.

فإذا رجع الحاج ورأى من نفسه إقبالًا على طاعة الله تعالى ورغبة في الخير وزيادة في الاستقامة وبعدًا عن المعاصي، فليعلم أن ذلك علامة قبوله عند الله بإذنه تعالى.

وإذا رأى من نفسه إدبارًا عن طاعة الله وإحجامًا عن الخير ورجوعًا للمعاصي واقترافًا للذنوب فليعلم أن ذلك مما يتطلب منه المراجعة الصادقة.

فيا من حججت بيت الله الحرام وقد مررت بتلك الأيام الفاضلة وعشت في تلك الأماكن الشريفة فليكن عملك هذا انطلاقة منك في درب الهدى وسبيل الحق.

يا من لبيتم نداء الله في الحج وناديتم لبيك اللهم لبيك فلتكن تلبيتكم لله بجميع الأمور دائمة وطاعتكم له مستمرة فرب أشهر الحج هو رب رضي الله عنه ائر الشهور ونحن مأمورون بالاستعانة والعبودية حتى الموت âوَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُá [الحجر: 99].

مواسم الخير أخي المسلم ليست تغييرًا مؤقتًا في حياة الإنسان ولكنها تحول كامل من حياة اللهو والغفلة والتقصير والتفريط إلى حياة الانقياد والعبودية الكاملة لله تعالى.

وليست مواسم الخير كما يفهمها بعض الناس محطات يتخفف فيها الإنسان من آثامه ويتخلص فيها من ذنوبه ليعود فيحمل غيرها فهذا فهم قاصر والذين يفهمون ذلك مخطئون في إدراك حقيقة تلك المواسم، بل إن هذه المواسم محطات لتنبيه الغافلين وعظة المقصرين لينيبوا إلى الله مقلعين عن ذنوبهم نادمين على فعلها عازمين على تركها.

âوَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى á [طه : 82].

وكثيرًا ما يعيش بعض الناس ضحايا لخداع أنفسهم وأحابيل شياطينهم حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك.

فيا من حججت إلى بيت الله الحرام لا تكن ممن يشيد قصورًا ثم يأتي عليها من قواعدها âكَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا á [النحل:92].

وإن من الأمور الخطيرة التي يجب أن يتنبه لها كل مسلم أن بعض الناس يحج بيت الله الحرام ويترك ما هو أعظم منه فمن الناس من لا يصلي الصلوات المفروضة وهذا لا شك لا حج له لأنه تارك للصلاة وقد ورد الوعيد الشديد فيمن ترك الصلاة قال تعالى: âمَا رضي الله عنه لَكَكُمْ فِي رضي الله عنه قَرَ ﴿42 قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَá [المدثر : 42 – 43].

وقال رضي الله عنه بحانه: âفَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ á [التوبة: 11]، وقال جل وعلا: âفَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا رضي الله عنه بِيلَهُمْ á [التوبة : 5] .

ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ، وأخرج الترمذي من حديث بريدة رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»، وروى الترمذي في كتاب الإيمان بإسناد صحيح عن شقيق بن عبد الله التابعي الجليل رحمه الله قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.

وبعض الناس يحج بيت الله الحرام وهو لا يزكي والزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل âوَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ á [البقرة:43] .

ويقول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله...» أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر، وقد قاتل أبو بكر رضي الله عنه  مانعي الزكاة وقال قولته المشهورة والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عقالًا أو عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها.

وبعض الناس يحج ولا يصوم رمضان والصوم آكد من الحج وفرضه رضي الله عنه ابق لفرض الحج هؤلاء الذين يقومون بالحج ويهملون الأركان الأخرى كمن يعالج عضوًا لجسد مقطوع الرأس.

والحق الواجب على المسلم أن يحرص على حفظ دينه وكماله وسلامته من الزوال والإخلال فيقوم بأداء الواجبات وترك المحظورات ويستقيم على دين الله حتى يأتيه يقينه، قال تعالى: âإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ á [فصلت:30]، ومما يؤكد عليه بعد الحج مراجعة المسلم نفسه ومحاسبتها على كل ما مضى من أعمال ثم يضع لنفسه برنامجًا يستطيع تأديته مستعينًا بالله حتى يكمل البناء الذي عمله في الحج.

كل هذا ليحافظ العبد على أهم الأعمال بعد أن أدّى فريضة الحج ووفقه الله تعالى لذلك.

أسأل الله تعالى أن يتقبل من الجميع حجهم ويجعله حجًا مبرورًا وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، كما أسأله تعالى الإخلاص في الأقوال والأعمال والسير على منهاج رضي الله عنه يد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن يجعل هذا العمل من المدخرات في الحياة وبعد الممات إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

أ.د. فالح محمد بن فالح الصغيّر



بحث عن بحث