خامسًا:  آثار الابتعاد عن منهج التيسير

للابتعاد عن منهج التيسير آثار خطيرة على الفرد والمجتمع، منها:

1 ــ التكليف بما لا يطاق :

إن أي تشدد زائد في تطبيق أحكام هذا الدين وتكاليفه، وأي تجاوز للخط الذي رسمه الله تعالى لعباده، سيعرض صاحبه للوقوع في الحرج والمعصية، وقد بيّن ذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لأولئك النفر الذين حاولوا أن يكلفوا أنفسهم ما لا تطيق، يقول أنس بن مالك ط: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي  صلى الله عليه وسلم  يسألون عن عبادة النبي  صلى الله عليه وسلم ، فلما أُخبِروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي  صلى الله عليه وسلم  قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

إن طبيعة الإنسان وفطرته لا تتحمل المداومة على القيام بأعمال تناقض هذه الطبيعة والفطرة، فالنوم فطرة وغريزة لابد للإنسان أن يشبعها، فالذي يقل نومه لا يستطيع القيام بأعماله العلمية والدعوية والمعيشية في النهار، وقد ذكر الله تعالى أنه راحة وسبات للإنسان في أكثر من موضع في كتابه العزيز، 

، كقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا .

وكذلك الزواج الذي به تدوم الحياة ويزداد النسل البشري، وهي سنة لا ينفك عنها الإنسان، والذي يريد أن يمتنع عن الزواج يناقض فطرته، ويسهم في تدمير الحياة، ويخالف شرع الله تعالى الذي أوجب مبدأ الزواج وحث عليه في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة النبوية.

والأمر الثالث الذي أشار إليه الحديث: الامتناع عن الأكل، والصيام المستمر، فهذا أيضًا ثقل على النفس وعبء لا يتوافق مع فطرة الإنسان وغريزته التي تميل إلى الاستمتاع بطيبات الله التي أخرجها لعباده من الأرض.

فمن أجل ترسيخ مبدأ اليسر والسماحة في تطبيق هذا الدين؛ أسرع النبي  صلى الله عليه وسلم  لإحضار هؤلاء النفر وبيان الخطأ الكبير الذي حاولوا أن يقعوا فيه، وأخبرهم بعد ذلك أنه عليه الصلاة والسلام أخشاهم لله وأتقاهم له، ولكنه لا يفرط في شيء على حساب آخر، فينام ويصلي، ويتزوج النساء، ويصوم ويفطر، وهذا هو الاعتدال والسماحة والسعة التي جاء بها هذا الدين العظيم.

2 ــ الفهم الخاطئ لهذا الدين :

إن الذي يتجاهل منهج التيسير والمسامحة في الإسلام يولد لديه قصور في فهم هذا الدين؛ لأنه لم يفهم هذا الدين كما أراد الله تعالى لعباده، وكما بيّنه لهم رسوله  صلى الله عليه وسلم ، وهذا الفهم الخاطئ مع مرور الزمن يمتد ليغوص في مجمل أمور الدين ومجالاته، فلا يتوقف عند بعض العبادات أو أحكام معينة، وإنما يتغلغل إلى الداخل حتى يتولد لدى صاحبه تصورات وأفكار بعيدة عن روح هذا الدين، ويدعو الناس إليها، ويحسب أنه يحسن صنعًا.

وهذه كانت حال الكثيرين ممن زهدوا في الدنيا فهجروا الطيبات، وامتنعوا عن الزواج، وتركوا الأموال والأولاد، بقصد التفرغ للعبادة والدعوة؛ فأدخلهم ذلك في ضلالات الشرك وترهات التصوف، وأدخلوا في الدين ما ليس منه من الطقوس والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان. وما ذلك كله إلا بسبب تشددهم وتنطعهم الذي أدى إلى فهم خاطئ لهذا الدين وعدم إدراك منهج اليسر والسماحة فيه.

3 ــ الأثر السلبي على الدعوة إلى الله :

تميل النفس البشرية دائمًا إلى السماحة والسعة في كل شيء، وتضيق ذرعًا بالمشقة والعنت في كل شيء أيضًا، كما تميل هذه النفس إلى أولئك الناس الذين ينتهجون السماحة في حياتهم، وتتعلق بهم أكثر من الذين ينتهجون خلاف ذلك.

ومعلوم أن من أهم عوامل نجاح الدعوة إلى الله تعالى: أن يألف الناس الداعية ويحبوه، وذلك من خلال فهمه لدين الله تعالى وطريقته لنقل هذا الدين ويحبوه، وذلك من خلال فهمه لدين الله تعالى وطريقته في نقل هذا الدين بالصورة التي أرادها الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهو أمر ضروري في الدعوة، فإن كان الداعية ممن ينتهجون السماحة والسعة في تبليغ الإسلام ومبادئه، ولا يحمل الناس فوق طاقاتهم كما كان يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإنه على خير، ودعوته تسير نحو النجاح والتوفيق، وأما إذا شدد على الناس وكلفهم بما لا يطيقون، كأن ينكر عليهم كل شيء ولو كان مباحًا، ويحرم عليهم ما لم يحرمه الله ورسوله  صلى الله عليه وسلم ؛ فإن هذا الداعية إنما ينفخ في الهواء ويسير نحو الفشل المؤكد؛ لأنه بذلك قد خالف الشرع وطبائع البشر، وتجاهل فطرهم ورغباتهم  وحاجاتهم، تقول أم المؤمنين عائشة ك بكل وضوح: «ما خُيّر رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه».

فالتشدد في غير موضع التشدد ينفّر الناس من الدين، ويجعلهم يسلكون مناهج أخرى في الحياة غير منهج الله، وهذه هي طبيعة البشر، تريد اليسر والسعة والسماحة ولا تطيق غيرها.

يقول أبو هريرة ط: بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم : «دعوه وهريقوا على بوله سَجْلًا من ماء -أو ذنوبًا من ماء- فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين».

فلينظر الدعاة الذين يخالطون الناس ويعلمونهم أمور دينهم إلى هذا الموقف العظيم للنبي  صلى الله عليه وسلم ، وهو القدوة والأسوة لنا إلى يوم الدين؛ ليعلموا مدى الفسحة والسعة التي جعلها الله في دينه، والحكمة في دعوة الناس إليه، فهذا الأعرابي قادم من البادية لا يعرف للمسجد حرمة ولا قداسة ويظنه كسائر الأمكنة، فأراد أن يقضي حاجته فيه، فقام إليه الصحابة ليضربوه وينهروه ويزجروه عن هذه الفعلة، فأوقفهم رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، وجعله يكمل بوله، ثم أمرهم أن يريقوا على بوله دلوًا من الماء لتطهير المكان، ثم أخذ الأعرابي برفق ولين، وعلّمه أن هذه الأماكن بيوت الله أقيمت للذكر والصلاة، ولا يجوز إحداث النجاسات فيها، فحينها أحس الأعرابي بخطئه وندم على فعلته، وأحب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لحكمته ولطفه معه، مقابل سلوك الصحابة معه ومحاولتهم ضربه وتأديبه، فلم يسعه إلا أن يقول: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا! فلما سلم النبي  صلى الله عليه وسلم  قال للأعرابي: «لقد حجرت واسعًا. يريد رحمة الله».

ومن أجل ذلك أوصى النبي  صلى الله عليه وسلم  معاذًا وأبا موسى م باليسر عندما بعثهما إلى اليمن فقال: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا».

وهو القائل عليه الصلاة والسلام: «إن الدين يسر، ولن يشادّ الدينَ أ حد إلا غلبه، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة».

4 ــ ومن الآثار الخطيرة :

القول على الله تعالى وعلى رسوله  صلى الله عليه وسلم  ما لم يقل، وتحميل الشرع ما لا يحتمل، وفي هذا جناية أيما جناية، جعلت النبي  صلى الله عليه وسلم  يقول: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»، ومن ثمَّ يوصف الدين بما ليس فيه.

Ì  ÌÌ  Ì  Ì



بحث عن بحث