الإيمانُ باليومِ الآخِرِ

البعثُ والنُّشورُ والعَرْضُ والحِسَابُ والصِّراطُ

الخطبة الأولى

   الحمد لله دل على وحدانيته، وألوهيته بالبراهين، والحجج، أحمده، سبحانه، وأشكره، وأسأله المزيد من فضله، بيده مفاتيح الفرج، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما جعل علينا في الدين من حرج، وأشهد أن سيدنا، ونبينا محمداً عبده، ورسوله هو المفدّى بالنفوس، وبالمهج، صلى الله، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، والتابعين، ومن تبعهم، واقتفى أثرهم، وسار على المنهج.

   أما بعد: عباد الله (اتقوا الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (الحشر: 18).

أيها المسلمون،

   مراحل السير إلى الدار الآخرة مراحل يتبع بعضها بعضاً، تبدأ بانتقال الإنسان من هذه الدار، ووضعه في قبره، ثم ما يلاقي فيه من نعيم، أو عذاب بحسب أعماله في هذه الحياة. بالتفصيل الذي ذكرناه في خطبة سابقة،   والمرحلة الثانية، هي تلك المرحلة العظيمة، والموقف الرهيب، إنها مرحلة البعث والنشور، والخروج من الأجداث والقبور، والوقوف بين يدي الكبير المتعال للحساب، والجزاء، وعرض الأعمال، ثم المصير، إما إلى جنة، وإما إلى نار (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [ آل عمران: 185] . 

أيها المسلمون!

  يوم البعث يكون عند النفخ في الصور، عندما ينفخ إسرافيل نفخاته الثلاث، نفخة الفزع، والتي يكون فيها اضطراب العالم، وفساد نظامه، قال تعالــى:

(ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) [النمل: 87]. ونفخة الصعق فيها هلاك كل شيء في هذا العالم، قال تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) [الزمر: 68]. ونفخة البعث، والنشور حيث يقوم الناس من قبورهم، قال تعالـى: ( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) [الزمر: 68]. يقوم الناس من قبورهم متوجهين إلى المحشر حفاة عراة غرلاً بهماً. وهذا يوم عصيب، وموقف رهيب، يوم البعث يوم مشهود، تعددت أسماؤه لعظم أهواله، وأعماله، فهو يوم الحشر والنشور، ويوم الفصل، والقيامة، ويوم الدين، والحساب، ويوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة، حين تحق الحاقة، وتقع الواقعة، والقارعة، وتجيء الصاخة، والطامة، يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمة، ذلك يوم الخروج، يوم تبلى السرائر، وتتكشف خبيئات الضمائر (ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) [النحل: 39]، يوم ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، فتأتون أفواجاً ، حفاةً عراةً غرلاً، في موقف يذيب هوله الأكباد، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، يجمع الله الأولين، والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، يجمع الله بين كل عامل، وعمله، وبين كل نبي وأمته، ومظلوم، وظلمته (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) [غافر: 17].

   الأبصار خاشعة، والشمس من الرؤوس دانية، قد علا أهل الموقف العرق، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يفر فيه المرء من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته، وبنيه، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه، أهواله شداد، أحواله عظام، تبدل الأرض غير الأرض، والسماوات، فالسماء فرجت، وكشطت، وانشقت، وفتحت، فكانت أبواباً، والشمس كورت، وخسف القمر، وجمـــع الشمس والقمر، والنجوم انطمست وانكدرت، وانتثرت، أما الأرض، فسجرت بحارها تسجيراً، ودكت جبالها دكَّاً، ونسفت نسفاً، وسيرت، فكانت سراباً، وزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها، وحدثت أخبارها، وألقت ما فيها، وتخلت.

أيها المسلمون!

   هذا هو يوم البعث، والنشور، يوم تدنو الشمس من الخلائق حتى تكون منهم بقدر ميل، ويلجمهم العرق، فيكون منهم على قدر أعمالهم، والصفوة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فيبحث الناس عمن يخلصهم من هذا الموقف، فيتشفعون بالأنبياء، والرسل من أولي العزم، وكلهم يعتذر لهول الموقف، حتى يشفع فيهم نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الشفاعة العظمى، فيكون بعد ذلك العرض، والحساب، عرض الخلائق على الله، سبحانه، (وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) [الكهف: 48] (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) [الحاقة: 18].

   ويتم الحساب، فيعرف الله، سبحانه، الخلائق على أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فيذكرهم ما نسوه: (يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه) [المجادلة: 6].

   وفي هذا الموقف تنشر الصحف، ويسأل الرسل، وأمتهم جميعاً (فلنسألـنَّ الذين أرسل إليهم ولنسألنَّ المرسلين) [الأعراف: 6] لكن سؤال المؤمنين الصادقين العاملين يختلف عن سؤال الكفار، والمنافقين، فالمؤمنون تعرض عليهم ذنوبهم، ويقرون بها، ويسترون، ففي الصحيح عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربه، عز وجل، حتى يضع عليه كنفه- أي ستره- فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: إي ربي أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار، والمنافقون، فينـادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم"  . ومن المؤمنين من يدخل الجنة بلا حساب، ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب، ولا عذاب.

   أما الكفار، والمنافقون، فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته، وسيئاته؛ لأنه لا حسنات لهم (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) [الفرقان: 23] لكن حسابهم عرض أعمالهم، وتوبيخهم عليها.

  وفي ذلك الموقف ينصب الميزان لوزن أعمال العباد، وتميزها، وإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها، قال تعالى: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [الأنبياء: 47]، وقال تعالى : (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، وما أدراك ماهيه، نار حامية) [القارعة: 6-11] وبعد الانتهاء من الحساب، والميزان يأخذ كل كتابه، ويقرأ ما فيه ، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، ومن وراء ظهره (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه، إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية، ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه) [الحاقة : 19-29].

أيها المسلمون!

   وبعد تناول الكتاب، وتطاير الصحف يمر الناس من على الصراط، وهو جسر على متن جهنم يمر عليه الأولون، والآخرون، فمن جازه سلم من النار، ومن لم يجزه سقط فيها، والعياذ بالله، قال تعالى: ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) [مريم: 71، 72].

  وروى مسلم، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ".. ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم، قيل: يا رسول الله! وما الجسر" قال: "دحض مزلة، فيه خطاطيف، وكلاليب، وحسك تكون بنجد فيها شُويكة، يقال لها، السعدان، فيمر المؤمنون، كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش، ومكدوس في نار جهنم". 

   وبعد عبور المؤمنين على الصراط، ونجاتهم من النار، وقبل دخولهم الجنة يقفون على قنطرة، بين الجنة فيقتص بعضهم من بعض في المظالم التي كانت بينهم في الدنيا، فإذا ذهبوا أذن لهم بدخول الجنة.

 وحينئذ يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً، فنعم الموفد، ونعم الوافدون، ويساق المجرمون إلى جهنــم ورداً، ظمأى، وعطشَى يتمثل لهم السراب كالماء، وما هو إلا الحر والسعير، والنار والزفير، فاتقوا الله عباد الله، وأعدوا العدة ليوم العرض والحساب، وقراءة الكتاب، وجواز الصراط، وأثقال الميزان، فالساعة آتية لا ريب فيها لا تأتيكم إلا بغتة، ولا يجليها لوقتها إلا الله، جل في علاه، نفعني الله ، وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. اقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث