الإيمان باليوم الآخر (3)

(نعيم الجنة وعذاب النار)

الخطبة الأولى

   الحمد لله، وكفى، أحمده سبحانه، وأشكره، وأسبحه، وأقدسه، لم يزل بنعوت الجلال، والكمال متصفاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقرَّاً بوحدانيته، ومعترفاً، وأشهد أن سيدنا، ونبينا محمداً عبده ورسوله النبي المجتبى، والرسول المصطفى، وأزكاها فضلاً، وشرفاً، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى أصحابه السادة الحنفا، أهل البر، والصدق، والوفا، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم، واقتفى.

   أما بعد : فاتقوا الله عباد الله، اتقوه ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.

  أيها المسلمون! في اليوم الآخر، عندما يجاوز الناس الصراط، ويقفون في قنطرة قبل دخول الجنة، ليقتص بعضهم من بعض في مظالمهم، يقول أبو العتاهية:

ولو أنا إذا متنا تركنا             لكان الموت غاية كل حيِّ

ولكنا إذا متنا بعثنـا                      ونسأل بعده  عن كل شيِّ

  بعد ذلك يدخل الجنة المؤمنون، فيحشر المتقون إلى الرحمن وفداً، ويساقون إلى الجنة زمراً، لقد وجدوا ما وعدهم ربهم حقَّاً، رضي عنهم، ورضوا عنه، ناداهم عز جلاله : ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) [الزخرف: 68-70]، أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمدلله رب العالمين) [يونس: 10] يناديهم المنادي: لكم النعيم سرمداً، تحيون، ولا تموتون أبداً، وتنعمون، ولا تبأسون أبداً، يحل رضوان ربكم، فلا يسخط أبدأً، جنات عدن يدخلونها، غرفاتها من أصناف الجوهر كله، يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، فيها من النعيم، واللذائذ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم: (فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) [السجدة: 17]، (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون] [الزخرف: 71].

   رياضها مجمع المتحابين، وحدائقها نزهة المشتاقين، وخيامها اللؤلؤية على شواطىء أنهارها بهجة للناظرين، عرش الرحمن سقفها، والمسك، والزعفران تربتها، اللؤلؤ، والياقوت، والجوهر حصباؤها، والذهب، والفضة لبناتها (غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار) [الزمر: 20] عاليات الدرجات في عاليات المقامات، بهجة المتاع، قصر مشيد، وأنوار تتلألأ، وسندس، وإستبرق، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة، ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، هم فيها على الأرائك متكئون، ظلها ممدود، وطيرها غير محدود، فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، قطوفها دانية للآكلين، وطعمها لذة للطاعمين، قد ذللت قطوفها تذليلاً، فيها أزواج مطهرة، خيرات حسان الوجوه، جمعن الجمال الظاهر، والباطن من جميع الوجوه، في الخيام مقصورات، وللطرف قاصرات، تقصر عن حسنهن عيون الواصفين( عرباً أتراباً، لأصحاب اليمين) [الواقعة: 37، 38] لا يفنى شبابها، ولا يبلى جمالها (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) [الرحمن: 56، 74] لو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين الأرض، والسماء ريحاً، وعطراً وشذىً، ولطمست ضوء الشمس، كما تطمس الشمس ما في النجوم من ضياء، حور عين، راضيات لا يسخطن أبداً، ناعمات لا يبأسن أبداً، خالدات لا يزُلن أبداً، أصحاب الجنة يلبسون من سندس، وإستبرق متقابلين، ويحلون من أساور من ذهب، ولؤلؤاً (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً) [ الإنسان: 21] نزع من قلوبهم الغل، وطرد عنهم الحزن، والهم، (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) [فاطر: 34، 35] هدوء، ورضىً يغمره السلام، والاطمئنان، والود والأمان، يبلغهم ربهم السلام (سلام قولاً من رب رحيم) [يس: 58] والملائكة يدخلون عليهم من كل باب بالسلام (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) [الرعد: 24] وخزنة الجنة يحيونهم بالسلام (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) [الزمر: 83].

  وفي الجنة: يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم، وأزواجهم، وذرياتهم (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) [الرعد : 23]

  وفي الجنة: الحسنى، وزيادة، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة إن ربكم، تبارك، وتعالى، يستزيركم – أي يطلب زيارتكم- فحيّ على الزيارة، فينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت، حتى إذا انتهى إلى الوادي الأفيح، نصبت لهم منابر من نور، ولؤلؤ، وزبرجد، سلام عليكم: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) [الأحزاب: 44] يا أهل الجنة! هذا يوم المزيد، ثم يكشف الرب الحجب، ويتجلى، لهم فيغشاهم من النور ما يغشاهم.

   فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى الوجه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة) [القيامة: 22-25] .

أيها المسلمون!

  أما الكفار، والمنافقون، ففي نار جهنم خالدون، النار: حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها حديد، يهوي الحجر من شفيرها سبعين خريفاً ما يدرك قعرها، مسالكها ضيقة، ومواردها مهلكة، يوقد فيها السعير، ويعلو فيها الشهيق، والزفير، أبوابها مؤصدة، وعمدها ممدَّدة ، يرجع إليها غمها، ويزداد فيها حرها، هي غضب الجبار، وزجره، وسخطه، ونقمته، جثت الأمم على الركب، وتبين للظالمين سوء المنقلب، انطلق المكذبون إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل، ولا يغني من اللهب، وأحاطت بهم نار ذات لهب، سمعوا الزفير والجرجرة، وعاينوا التغيظ، والزمجرة، ونادتهم الزبانية (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) [النحل: 29] الهاوية تجمعهم، والزبانية تقمعهم، في مضايقهم يتجلجلون، وفي دركاتها يتحطمون، ترى المجرمين مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، وتغشى وجوههم النار، الأغلال في أعناقهم، وبالسلاسل يسحبون، وبالنواصي، والأقدام يؤخذون، وفي الحميم، ثم في النار يسجرون، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم، والجلود، ولهم مقامع من حديد، مقامع فوق رؤوسهم، تُكوى جباههم، وجنوبهم، وظهورهم (ذوقوا مس سقر) [القمر: 48] طعامهم الزقوم، والضريع، لا يسمن، ولا يغني من جوع، شرابهم الحميم، والغساق، والماء الصديد، يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، ويملأ البطون، (يتجرعه ولا يكاد يسيغه) [إبراهيم: 17] (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير) [فاطر: 37] (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب) [النساء: 56] يتمنون الموت، والهلاك، ولكن أين المفر؟ ومتى الفكاك؟ (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون، لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) [الزخرف: 78] ثم يعلو شهيقهم، ويزداد زفيرهم، وحيل بينهم، وبين ما يشتهون، فيعظم بأسهم ، ويرجعون إلى أنفسهم (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) [إبراهيم: 21] نعوذ بالله من غضبه، وأليم عقابه، وعذابه.

أيها المسلمون!

   هذه حال الناس في دار القرار، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، هذا هو المصير، والمآل، فأعدوا العدة، وتزودوا لهذه الدار، ولينظر كل إلى عمله، ويطالع صحيفته، ويحاسب نفسه، واتقوا النار التي أعدت للكافرين، واتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد.

   نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم، ولسائر المؤمنين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث