الأمر بالمعروف

الخطبة الأولى

   الحمد لله القوي المجيد، المدبر لخلقه كما يشاء، وهو الفعال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره ، أحكم ما خلق، وشرع، فهو الحكيم الرشيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده، ورسوله أشد الناس غيرة في دين الله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله، وأصحابه الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، فنعم الأقوياء ونعم العبيد، وعلى التابعين لهم بالإحسان، والتسديد، أما بعد:

  عباد الله: اتقوا الله تعالى يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم .

أيها المسلمون!  إن الله، سبحانه، وتعالى، لما خلق الخلق في هذه الحياة شرع لهم ما يناسب حالهم، ويصلح شأنهم، ولا يتعارض مع أسس حياتهم، ومن حكمته، جل شأنه، وتقدست أسماؤه، أن جعل في الخلق مؤمناً صالحاً، وكافراً طالحاً، وفاسقاً عاصياً، وجعل استقامة الحياة، وأمنها، وصلاحها بفعل وسائل الإصلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، جل، وعلا، وبذل النصيحة، فلهذا كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس إذا قامت بهذه المهام العظيمة: (كُنتم خير أُمَّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110].

أيها المسلمون!

   ولهذا جعل الله لهذا المبدأ العظيم فضائل عظيمة، وحكماً جليلة، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أكبر عوامل الصلاح في النفس، والإصلاح في المجتمع، به يعلو الحق، ويندحر الباطل، ويعز المؤمن، ويذل الفاسق، به تقوم السعادة، والإيمان، وينتشر الخير، والأمان، به يصلح الفاسد، ويقوَّم المعوج، وترتفع درجات المؤمن.

    يقول أحد العلماء: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه، وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.

أيها المسلمون:

   إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وظيفة الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام، يقول، جل وعلا ، في صفة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم: (الذين يتَّبعون الرسول النبي الأميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) [الأعراف: 157].

   وهو من صفات المؤمنين الصادقين، يقول سبحانه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة ويُطيعون الله ورسوله أُولئك سيرحمهم الله إنَّ الله عزيز حكيم) [التوبة: 71].

   وجعل سبحانه ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من صفات المنافقين، علامة فارقة بين المؤمنين، والمنافقين،  يقول جل شأنه: ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) [التوبة: 67].

   وجعل الله سبحانه، وتعالى، خيرية هذه الأمة معلقة بقيامها بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: (كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110].

   أيها المسلمون: اعلموا أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب من واجبات الدين، وفرض من فرائضه لا يقوم الإسلام إلا به، يقول سبحانه: (ولتكن منكم أُمَّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكر وأُولئك هم المفلحون) [آل عمران: 104].

   فالله سبحانه أمر بهذه الآية بأن تقوم طائفة من هذه الأمة بهذا الواجب العظيم، وأنه لا يتم الفلاح إلا به، ولذا جاء في الحديث الصحيح، فيما رواه مسلم، وغيره، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، وإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

أيها المسلمون!  إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل فرد كل بحسبه، ومكانته، وحسب استطاعته، فالسلطان، والقاضي، والوزير، والمدير، والموظف، والمدرس، وولي البيت، والرجل، والمرأة، والشيخ، والشاب مهما اختلف السن، أو الوظيفة، فالواجب على كل فرد أن يأمر، وينهى باليد إن كان يستطيع ذلك، كولي الأمر، ورب الأسرة، وإن لم يستطع، فبلسانه في بيان الحق، وتوضيحه، والنهي عن الباطل، وإن لم يستطع، فلا أقل من إنكار المنكر، في قلبه، وظهور علامات ذلك في وجهه.

   أيها المسلمون: لقد رتب الله، سبحانه، وتعالى، النجاة، والسلامة، من مصائب الدنيا، وعقوبات الآخرة بقيامها بهذا الواجب العظيم، ورتب حصول العقوبات، والبلايا، والمحن على ترك هذه الشعيرة العظيمة يقول، سبحانه، وتعالى: (فلمَّا نسوا ما ذُكِّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) [الأعراف: 165]. وروى البخـاري، وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهـم، وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً".

   وروى الترمذي، وغيره بإسناد حسن، عن حذيفة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه، فلا يستجيب لكم"  .

  وروى أصحاب السنن بإسناد صحيح، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده". (3)

وفي رواية لأبي داود: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب".

أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى لعن بني إسرائيل لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، وهذه قاعدة عامة وسنة كونية، فإذا انتشر المنكر في الأرض، وعمت الخطيئة، وتساهل الناس في الإنكار، عاقبهم الله سبحانه وتعالى صالحهم وطالحهم مؤمنهم وفاسقهم، فإذا دعا صالحوهم فلا يستجاب لهم، يقول سبحانه وتعالى: ( لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [المائدة : 78، 79].

   وروى البيهقي، وغيره، عن جابر، رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله إلى جبريل، عليه السلام، أن أقلب مدينة كذا، وكذا بأهلها، قال: يا رب إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها عليه، وعليهم فإن وجهه لم يتمعر فيَّ ساعة قط" ، أبعد هذه النصوص العظيمة، والأقوال الصادقة يطيب لمؤمن أن لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؟ أيطيب له النوم في فراشه، والجلوس في بيته، وبيته يعج بالمنكرات؟ أيهدأ بال من له أولاد لا يؤدون الصلاة، ولا يأمرهم، ولا ينهاهم، أو نساء، وبنات متبرجات لا يأخذ على أيديهن؟ أيرتاح من يخشى الله، وهو يرى كثيراً من المنكرات في الشوارع، والبقالات، والأسواق، والمنتديات، وهو لا يسدي نصيحة تكون حاجباً من العقوبة؟ ألا يخشى عذاب الله، ومقته من لا يتحرك فيه ساكن تجاه الذنــــوب، والمعاصي؟ أيأمن مكر الله، وعقوبته في الدنيا من يلهو، ويسهو، أو يساعد المجرمين، والفاسقين؟ أو يستر على العصاة المذنبين، ويدافع عنهم؟

   فاتقوا الله عباد الله! وقوموا بهذه الشعيرة العظيمة كل بحسبه، وبحدود مقدرته، ودائرة اختصاصه، تأمنوا عذاب الله، وعقوبته أفراداً ، وجماعات في الدنيا، والآخرة (ولينصُرَنَّ الله من ينصره إنَّ الله لقويٌ . عزيز الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولِلَّه عاقبة الأمور) [الحج : 40، 41].

   أسأل الله تعالى أن يقينا عقابه في الدنيا، والآخرة، وأن يجعلنا من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث