الرحمـة

الخطبة الأولى

  الحمدلله، وسعت رحمته كل شي، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد"

    (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) [الحديد: 28].

عباد الله !لقد رضي الله، تعالى، لنا الإسلام ديناً، فأتم به النعمة، وأزال به الغمة  ، وعم به الخير، وشاعت به الفضيلة، والرحمة.. وضوحاً في العقيدة، والتوحيد، وسهولة في العبادة، وسمواً في الأخلاق، والفضائل، وعلواً في المقاصد، والغايات. والمسلم الحق، وهو يعيش بإسلامه في هذا التصور الشامل لهذا الدين الرحيم متذكراً نعمة الله، تعالى، حيث حقق السعادة، والطمأنينة ، والخير، والأمن، والأمان، والحياة الطيبة، والعيش الرغيد.. والرحمة في الدنيا، والآخرة.

أيها المسلمون!

   إن من مقاصد الإسلام العظمى، وغاياته الكبرى إشاعته لكل خير، ونبذه لكل شر، والرسول، عليه الصلاة والسلام، ما من خير إلا دل أمته عليه، وما من شر إلا حذرها منه (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) .

وإن من مقررات هذا الخير ، والتي تمثل مقصداً من المقاصد الشرعية إشاعة الرحمة، تلك الكلمة العظيمة، والوصف الجميل، والمدلول الكبير... ولا غرو في ذلك، عباد الله، فقد اتصف الله، تعالى، بهذه الصفة العظيمة، وكتب على نفسه الرحمة، بل افتتح بها كتابه العظيم، فقال سبحانه: ( بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم..) وأوجب قراءة هذه الآيات في كل ركعة من ركعات الصلاة.. ليتعمق هذا المفهوم، ويستقر في النفوس، ويشيع بين الناس.. فالله رب العالمين، الرحمن الرحيم، بل هو أرحم الراحمين، صفة معلومة المعنى، مجهولة الكيف لنا.

  ولقد بين سبحانه معاني هذه الرحمة، وسعتها، وشمولها بما يقف معه القلم، والفكر عاجزين عن تصورها: استمعوا، عباد الله، لسعتها (ورحمتي وسعت كل شيء) [الأعراف: 156]  و(كل) من ألفاظ العموم، فعمت رحمته الإنس، والجن، والحيوان.. والمتقين، والفجار، والأولين، والآخرين.   

   وهذه الرحمة تتجلى في أمور لا حصر لها قال تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) [القصص: 73]، وقال سبحانه: (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيماً) [الإسراء: 66] ، وقال سبحانه : (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) [النحل: 5-6-7]. ومن رحمته رفع البلاء: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) [يونس: 21] ، وقال سبحانه: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين) [يس: 44]. ومن رحمته تخفيف الأحكام الشرعية عمن يحتاج إلى ذلك ، قال تعالى : (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم) [التوبة: 91]، ومن رحمته قبول توبة التائبين (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه، والله غفور رحيم) [المائدة: 74]، ومن رحمته الأرزاق، والأولاد قال تعالى: (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) [ص: 43]، ومن رحمته إنزال الغيث: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته) [الروم: 46] وقال سبحانه: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) [الشورى: 28].

أيها المسلمون!

   ولعظم رحمة الله أخبر سبحانه تقدم رحمته على غضبه، فقد قال، عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)  ومن رحمته، جل وعلا ، أنزل هذا القرآن العظيم الذي جعله رحمة من رحماته: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 57، 58]. وهذه الرحمة العظيمة التي في الدنيا التي لا تمثل إلا جزءاً من مئة جزء من رحمته في الآخرة، فقد جاء في الحديث الصحيح : (إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) .

أيها المسلمون!

   لا شك، ولا ريب في عموم رحمة الله، تعالى، لكنها أخص للمؤمنين الذين استجابوا لله ورسوله، وأطاعوه، وعبدوه حق عبادته، فلهم رحمة تخصهم يوم يلقونه، استمعوا إلى المرحومين من المؤمنين قال تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم) [التوبة: 20، 21].

   وقال تعالى : (إن رحمة الله قريب من المحسنين) [الأعراف: 56] وقال سبحانه : (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 156، 157] وقال تعالى: (إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم) [النمل: 11]، وقال سبحانه: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) [آل عمران: 132] وقال جلا وعلا: (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل) [النساء: 175] وقال سبحانه: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) [الأعراف: 156، 157] وقال سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) [الحديد: 28] وقال سبحانه: (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) وقال عليه الصلاة والسلام: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)  .

هذه سمات المرحومين وصفاتهم: الإيمان بالله وتقواه، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله، واتباع الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقيام الليل، والاعتصام بالكتاب والسنة، والإحسان إلى الخلق، وعمل الحسنة بعد السيئة، والتحلي بالصبر والجهاد، فهل يطيب لمسلم ألا يطلب رحمة الله بعد ذلك، فاطلبها في هذه الصفات تكن من المرحومين. جعلني الله وإياكم من المرحومين، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث