الوقت والإجازة الصيفية

الخطبة الأولى

   الحمد لله الواحد القهار، يكور النهار على الليل، ويكور الليل على النهار، وسخر الشمس والقمر، كل يجري إلى أجل مسمى ألا هو العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بالتفكر والاعتبار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين والأنصار، وسلم تسليماً كثيراً ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد : عباد الله: اتقوا الله في ليلكم ونهاركم، وفي جميع أحوالكم.

أيها المسلمون!

   إن هذا العمر الذي يعيشه الإنسان في الدنيا هو مزرعته للآخرة، فإن زرع خيراً وعمل صالحاً بنية خالصة جنى السعادة والفلاح، وتكون النتيجة: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) [الحاقة: 24] وإن ضيعه في الغفلة واكتساب المعاصي ندم يوم لا تنفع الندامة، وتمنى الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة، فيقال له: (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) [فاطر : 37].

أيها المسلمون! إن هذا الوقت الذي يقضيه الإنسان في الدنيا نعمة عظيمة ومنحة جليلة من الله، سبحانه وتعالى، ولذا ورد ذكره في كتاب الله تعالى، واهتم به الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبيّن عظمته وأهميته، ومن الاهتمام به أن أقسم الله سبحانه وتعالى بأجزاء منه، فجاء في القرآن:(والضحى والليل إذا سجى)الضحى:1-2] .

  وقال سبحانه : (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلَّى) [الليل: 1-2] وقال : (والعصر) (العصر: 1) وقال: (والفجر وليالٍ عشْر) [الفجر: 1-2] ويقول سبحانه مبيناً تفضله على عباده، وامتنانه به: (وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخَّر لكم اللَّيل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها) [إبراهيم: 33، 34].

   ولعظم هذا الوقت، سيسأل عنه الإنسان يوم القيامة، وسيحاسب عليه ماذا قضى فيه، وما أودع في أيامه؟ وماذا سجل في سجلاته؟ روى البزار والطبراني بإسناد صحيح، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "لن تزول قدما يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به"؟

   فالإسلام ينظر إلى هذا الوقت بنظرة خاصة، ولذا شرع العبادات اليومية مقسمة على ساعات اليوم لئلا يغفل الإنسان عن استغلاله لها، فحينما يدبر الليل، ويسفر نقابه عن وجه الفجر، يقوم داعي الله يملأ الآفاق لصلاة الفجر موقظاً للنائمين، وكذا عندما يقوم قائم الظهيرة لصلاة الظهر، ثم صلاة العصر، وعند إدبار النهار لصلاة المغرب، ثم صلاة العشاء، فيفتتح يومه ويختمه بعبادة ربه ومناجاته، وذكره ودعائه، وكذا في كل أسبوع بعبادة خاصة يوم الجمعة لها فضل معين ومكانة عظيمة، يجتمع فيها المسلمون، وفي السنة تأتي المواسم الكبرى المتتالية، كل ذلك إشعاراً للمسلم بأهمية الوقت وضرورة استغلاله، والحرص على عدم فواته بطاعة المولى عز وجل.

أيها المسلمون! اعلموا أن هذا الوقت سريع الانقضاء، فهو يمر مرّ السحاب، ويجري كالريح، سواء كان زمن سعادة أم كان زمن تعاسة، ومهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فهو قصير ما دام الموت نهاية كل حي.

       ولو أنا إذا متنا تركنـــا            لكان  الموت راحة كل حــيِّ

       ولكنا إذا متنا بعثنــــا             ونسأل  بعـده عن كل شــيِّ

وقال آخر:

       وإذا  كان آخر العمر موتاً              فسواء  قصيــره والطويـل

   ويقول سبحانه وتعالى: ( كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيةً أو ضُحاها) [النازعات: 46] ويقول: (ويوم يحشرهم كأنْ لم يلبثوا إلاَّ ساعةً من النَّهار يتعارفون بينهم) [يونس: 45].

   وعلى سرعة انقضائه، فما مضى منه لا يعود، ولا يعوض، فكل يوم يمضي، وكل ساعة تنقضي وكل لحظة تمر ليس في الإمكان استعادتها، وليس في الإمكان تعويضها، يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة.

   ويقول الشاعر:

   وما المرء إلا راكب ظهر عمـره        على سفر يغنيه باليوم والشهـر

   يبين ويضحى كل يوم وليلـــة  بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبـر

أيها المسلمون! إن هذا الوقت أغلى ما يملك الإنسان، وأثمن ما يحصله؛ لأنه وعاء لكل عملي، ومحل كل إنتاج، وهو رأس المال الحقيقي، لأنه حياة الإنسان، يقول الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك. وانظروا إلى الإنسان عند الموت يتمنى وقتاً يرجع فيه إلى الدنيا ليعمل صالحاً: ( يا أيُّها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربِّ لولا أخَّرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّق وأكُن من الصالحين) [المنافقون: 9، 10]. فيكون الرد على هذه الأمنية: (ولن يُؤخِّر الله نفساً إذا جاء أجلها واللَّه خبيرٌ بما تعملون) [المنافقون: 11].

   وكذا في الآخرة حيث توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت يتمنى أهل النار أن يعودوا ليعملوا صالحاً، ولكن هيهات: (والَّذين كفروا لهم نار جهنَّم لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفَّف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها ربَّنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذين كُنَّا نعمل أولم نُعمِّركم ما يتذكَّر فيه من تذكَّر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظَّالمين من نصير) [فاطر: 36، 37].

أيها المسلمون! إن هذا الوقت ذا الثمن الغالي، والقيمة النفيسة، حري بالمسلم أن يحرص عليه، وأن يحافظ على ساعاته ودقائقه، فهو لا شك سينقضي ويمضي.

دقات قلب المرء قائلة له                إن الحياة دقائق وثوان

   ولذا قال الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" . وروى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالمبادرة إلى العمل واستغلال الوقت قبل حضور الأجل، فقال: "بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو  غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر".

أيها المسلمون: إن الغبن كل الغبن، والخسارة كل الخسارة أن يمضي هذا الوقت بدون فائدة، وينقضي بدون عمل صالح، وهذه للأسف حال كثير من المسلمين، حيث يهدرون الأوقات بالقيل والقال، بل يقضون الساعات الطوال والأيام الكثيرة، ولا يسجل في صحائفهم أعمال صالحة، بل بعضهم يقضيها بالمكروه والمحرم، ويسود صحيفته باكتساب المعاصي والذنوب، ومما يؤثر عن بعضهم جهلاً أو تجاهلاً ما يسمى بقتل الوقت، فاحرصوا على قضاء أوقاتكم بما يفيدكم ابتداء بالفرائض والحرص عليها، ثم بالأعمال الصالحة المتنوعة، والمسابقة فيها، وتحري الأوقات الفاضلة للتزود فيها، كآخر الليل ويوم الجمعة وشهر رمضان وعشر ذي الحجة وغيرها، وينبغي للمسلم أن ينظم يومه ليبارك الله في عمره، فيعطي لكل جانب حقه ديناً ودنيا، أولى وأخرى، والحرص على أن يسجل في يومه كل عمل صالح.

مضى أمسك  الماضي شهيداً معدّلاً     وأصبحت في يوم عليك  شهيـــد

فإن كنت بالأمس اقترفت إســاءة فثنّ  بإحسان وأنــت حميــــد

ولا تُرْجِ فعل الخير يوماً إلى غـدٍ  لعل غداً يأتي وأنـــت فقيـــد

فيومك إن أعتبته عاد نفعــــه     عليك وماضي الأمس  ليس يعــود

   اتقوا الله- عباد الله- واعملوا صالحاً قبل حلول الأجل، فما يدري الإنسان متى نهايته؟ وخذوا من أنفسكم لأنفسكم، ومن دنياكم لآخرتكم، ومن صحتكم قبل مرضكم، ومن شبابكم قبل هرمكم، فالموت آتٍ والأجل قريب، أسأل الله أن يجعل أوقاتنا شاهدة لنا، وليست شاهدة علينا، وأن نكون ممن يعمر أيامه وساعاته وأعوامه بالأعمال الصالحة، ويحفظ أوقاته عن إضاعتها بما لا فائدة منه، أو فيما يضر ولا ينفع.

    نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث