الخطبة الثانية

   الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلاَّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه وسلم تسليماً كثيراً.

   أما بعد أيها المسلمون! ومن الاستقامة: الاستقامة في الأخلاق فلا إفراط فيها ولا تفريط.

   هذا الباب يسوده الغلو والجفاء، ويقل فيه المنهج الوسط، ولذلك فقد عني القرآن به عناية خاصة، وجاءت الآيات تترى توضح هذا المنهج، وتدعو إليه، وتربي الأمة عليه، وتحذر مما يضاده غلواً أو جفاء، إفراطاً أو تفريطاً.

   سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كان خلقه القرآن" [رواه مسلم]  ، فالإسلام وسط بين الكبر والطغيان، وبين الضعف والخور والخذلان، ووسط مستقيم بين الإنفاق والبذخ، وبين البخل والشح، (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) [الإسراء: 29].

   وكذلك الإسلام – عباد الله- وسط مستقيم في باب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو منهج يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، يدور مع المصلحة وجوداً وعدماً، ينظر إلى مآلات الأمور دون الوقوف عند ظواهرها فقط (فذكِّر إنْ نفعت الذكرى) [الأعلى: 9] فلا إفراط، ولا تفريط، ولا عنف، ولا غلظة منكرة، ولا خنوع، أو رضا بالمنكر، ومباركة له (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتـي هي أحسن)[النحل: 125]. فاللين والإغلاظ أمران مشروعان، لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر في كل الأحوال، وإنما الحق هو استخدام كل واحد منهما في موضعه، كما قال الشاعر:

ووضع الندى في موضع السيف بالعـلا

                                        مضر كوضع السيف في موضع النـدى

عباد الله ! من الخبر العظيم أن نتحرى الاستقامة على منهج القرآن والالتزام بها في جميع المجالات، حتى لا تزل العقول والأقدام، فنقع في الغلو والإفراط نتيجة الحماس غير المنضبط، أو الوقوع في التفريط والتهاون استجابة لرغبات النفس وشهواتها.

ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد

                                        كلا طرفي قصد الأمــور ذميــــم

أيها الأكارم ! يجب أن تميز الأمة بين الاستقامة والتدين الذي يمثل وسطية الدين، وبين المناهج والأفكار التي سلكت غير سبيل المؤمنين، كما تميز بين الصورة والحقيقة، هناك من يفهم الاستقامة على أنها مجرد مظاهر وشكليات وطقوس، ويقيسون تدينهم وتدين الآخرين بالحفاظ على هذه الشكليات، أما جوهر الدين وترجمته إلى سلوك في الحياة، فهذه أمور لا تشغل بال هؤلاء الذين جعلوا من الدين جسداً بلا روح، ولفظاً بلا مضمون.

إخوة الإسلام! يجب أن تكون الاستقامة مبنية على علم صحيح، وفهم سليم من القرآن الكريم والسنة النبوية؛ لنقضي على المفاهيم المغلوطة التي تسود حياة كثير من الناس فيقعون في الغلو أو التنصير مبتعدين عن منهج الاستفادة

عباد الله! إن الاستقامة والتدين هي العلاج الناجع لمشكلات الأمة بجميع ضروبها: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) [الأنعام: 153] لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً، وما دام هذا الصراط مستقيماً ، فإنه لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه.

أيها المسلمون!إن أعظم مهمة في هذا العصر تغذية منابع الاستقامة وترسيخ العقيدة والمنهج الوسط، فالشاب بلا عقيدة لا تطيب له حياة، ولا تستقيم أموره، بل يجرفه التيار أينما سار، فهو مرّة متشدد، وتارة متردد، وطوراً متبدد، قليل الخير لنفسه ولمجتمعه (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) [الأنعام: 122]. فالله الله بالتمسك بمنهج الله (فاستقم كما أمرت) ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله تعالى في محكم التنزيل حيث قال: (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).



بحث عن بحث