أصحاب الكهف

الخطبة الأولى

   الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، وجعل لنا من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما جعل علينا في الدين حرجاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتخذ دينه منهجاً.

أما بعد : عباد الله ! اتقوا الله في شبابكم وهرمكم، وصحتكم ومرضكم، وغناكم وفقركم تفلحوا في دنياكم وآخرتكم.

أيها المسلمون! سورة عظيمة تتلى كل يوم جمعة حَوَتْ من القصص والأخبار، والعظات والأحكام ، والدروس والعبر ما فيها آيات لكل مُدَّكِر.

  هذه السورة هي سورة الكهف، التي تضمنت قصة أصحاب الكهف، الذين آمنوا بربهم ، فَأَووا إلى الكهف.

أيها المسلمون! قد ورد في سبب نزولها ونزول قصة ذي القرنين أن اليهود أغروا أهل مكة بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقالوا لهم: سلوه عن ثلاثة نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل تَقَوَّل، فتروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمورهم؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فلما سألوه قال الرسول صلى الله عليه وسلم- (أخبركم غداً عما سألتم عنه) ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يُحدِثُ الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً، ،واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُكْثِ الوحي عنه، وشق عليه ذلك، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وأخبره عن ما سألوه عن أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: (ويسألونك عن الروح قل الروح) [الإسراء: 85].

أيها المسلمون! قصة أصحاب الكهف ذكرها الله سبحانه إجمالاً، ثم عرضها تفصيلاً، وهي تبدأ بقوله سبحانه وتعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا ءاتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً* فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً* ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً) [الكهف 9-12] وهو تلخيص يجمل القصة، ويرسم خطوطها العريضة، فتبين أن أصحاب الكهف فتية، أووا إلى الكهف، وهم مؤمنون، وأنه ضرب على آذانهم في الكهف- أي أنهم ناموا سنين معدودة – لا نعلم عددها – وأنهم بُعِثوا من رقدتهم الطويلة، وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم، ثم لبثوا في الكهف، فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدقَّ إحصاءً، وأن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب من آيات الله.

أيها المسلمون!لقد عاش هؤلاء الفتية في البداية في مجتمع جاهلي مادي محض، وفي دولةٍ وثنية جائرة، ولكن في هذا المحيط الضيق المطبق، وجد رهط من الناس تسربت إليهم دعوة الحق والهدى، فوافقت منهم عقولاً واعيةً وفكرة خاشعة، وأصبح لديهم إيمان وعقيدة، وهنا ينتصر الإيمان على المنطق المادي: (إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيِّن فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) [الكهف : 13-15] ، وهنا يسعفهم الإيمان وينير لهم الطريق، بأن في أرض الله سعة، وفي نصر الله ثقة (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً) [الكهف: 16] – نعم عباد الله- إنه لا يضيق مع رحمة الله تعالى شيء، ولو كان صاحبها في أشد الظروف وأحلكها، ولا سعة مع إمساكها، ولو تقلب في أعطاف النعيم والرخاء، ورحمةُ الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا أي حال، وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف في الجُبِّ والسجن، ووجدها يونس في ظلمات ثلاث! ووجدها موسى وهو في  اليَمِّ! ووجدها أصحابُ الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته) [الكهف: 16] ووجدها محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار، نعم- أيها الأحبة- إنه من وجد الله فماذا فَقَد؟! ومن فَقَد الله، فماذا وجد؟

عباد الله : لقد نفَّذ الفتية ما استقر عليه رأيهم، فها هم أولاء في الكهف، وقد ضُرب عليه النعاس (وترى الشمس إذ طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه...) [الكهف: 17] وهو مشهد تصويري عجيب، ينقل بالكلمات هيئة الفتية، فقد حفظهم الله من الشمس فهيأ لهم غاراً إذا طلعت الشمس عنه تَزْوَرُّ يميناً، وعند غروبها تميل عنه شمالاً، فلا ينالهم حرُّها، فتفسد أبدانهم بها، كما حفظ الله أبدانهم- كذلك – أن تأكلها الأرض: لأن الأرض- طبيعتها أكل الأجسام المتصلة بها، فكان من قدرة الله أن قَلَّبهم على جنوبهم يميناً وشمالاً (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) [الكهف: 18] وفجأة! تدب فيهم الحياة، فلننظر ولنسمع: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) [الكهف: 19] يعرض القرآن هذا المشهد، والفتية يستيقظون، وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل: كم لبثتم؟ كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل: (قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم)! ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها، ويدعوا أمرها إلى الله، - وهذا شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله، ولا فائدة من البحث فيه-، فراحوا بعد ذلك يأخذون في شأن عملي فهم جائعون، ولديهم نقود خرجوا بها من المدينة : (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً) [الكهف: 19] أي فليختر أطيب الطعام في المدينة، فليأتكم بشيء منه، وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة، فيقتلوهم رجماً- بوصفهم خارجين عن الدين؛ لأنهم يعبدون إلهاً واحداً في المدينة المشركة! أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً) [الكهف: 20].

أيها المسلمون! إن العبرة العظيمة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث حيث يمثل واقعاً محسوساً، يُقرِّب على الناس قضية البعث، فيعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها، ليستعد لها الإنسان المؤمن ويهيىء الزاد ليوم البعث والنشور (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم) [الكهف: 21].

عباد الله ! وهنا تظهر المعجزة الكبرى من معجزات أصحاب الكهف! ففي مدة نومهم واعتزالهم في الكهف تغيرت الأوضاع في البلد، فانقرضت دولة الوثنية والخلاعة، وطُوى رجالها وأصحابها في تقلبات الزمان، وقامت على أنقاض هذه الدولة الوثنية دولةٌ تؤمن بالله، تدين دين الحق، وتنتصر للدين الجديد الذي حاربته الدولة الماضية طويلاً، وصارت تُجِلُّ كل من انتمى إلى هذا الدين، وترحب بكل من يدين بهذه العقيدة وتعتز برجالها، قال تعالى: ( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتَّخذنّ عليهم مسجداً) [الكهف: 21] يخبر الله أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف، وذلك بعدما استيقظوا وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً، فأراد الله منه أمراً وهو صلاح الناس، إذ أن الناس رأوا بالعيان، أن وعد الله حق لا شك فيه، فجعل قصتهم عبرة وزيادة يقين للمؤمنين، وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم، حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم إلى أن وصلت بهم الحال أن قالوا: ابنوا عليهم مسجداً- أي مكاناً نعبد الله فيه، ونتذكر أحوالهم، ومن المعلوم أنه في ديننا لا يجوز نصب القبور في المساجد ولا التوجه إليها، لكن هذا ما كان من رأي من طرحه منهم.

   هذه قصة أصحاب الكهف وشيء من دروسها، فلنا في ذلك عبرة ودرس ومنهج، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفاراً.



بحث عن بحث