قصة ذي القرنين

الخطبة الأولى

  الحمد لله غافر الزلات، ومقيل العثرات، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، أحمده سبحانه جل وعلا، وأشكره بكل جميل خفي أو جلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً:

   أما بعد عباد الله: اتقوا الله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نوراً تمشون به.

أيها المسلمون!في هذه الخطبة – إن شاء الله- نختم بعون الله- عِقْد قصص سورة الكهف، ألا وهي قصة ذي القرنين، وهذا الدرس الأخير في سورة الكهف قوامه قصة ذي القرنين، ورحلاته الثلاث إلى الشرق، وإلى الغرب، وإلى الوسط، وبناؤه للسد في وجه يأجوج ومأجوج، تبدأ قصة ذي القرنين بقوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين، قل سأتلوا عليكم منه ذكراً) [الكهف: 83] أي صاحب القرنين، وقد قال اليهود لقريش: اسألوا محمداً عن هذا الرجل، فإن أخبركم عنه فهو نبي، ولماذا سمي بذي القرنين؟ الأقرب أنه سبب ذلك؛ لأن ملكه كان عظيماً، حيث بلغ ملكه المشرق والمغرب، وهذا مناسب تماماً، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشمس أنها: (تطلع بين قرني شيطان) متفق عليه . فقد بلغ ملكه قرني الشمس.

عباد الله: لقد سأل سائلون عن ذي القرنين، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته، وقد سجل السياق القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات: واحدة إلى المغرب وواحدة إلى المشرق، وواحدة إلى مكان بين السدين.

    فلنبدأ معاً مع السياق في هذه الرحلات الثلاث: يقول الله تعالى: (إنَّا مكنَّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً) [الكهف: 84] لقد مكَّن الله لذي القرنين، فأعطاه الله سلطاناً، وثبت ملكه، وسهل سيره، وأحكم قوته (فأتبع سبباً) [الكهف: 85] ومضى في وجه ما هو ميسر له، وسلك طريقاً إلى الغرب، وتبع السبب الموصل لمقصوده، (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماًَ قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً) [الكهف: 86] لقد أعطى الله ذا القرنين ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس مرأى العين كأنها تغرب في عين حمئة أي سوداء، ومعلوم أن الشمس تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلا فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة ، (ووجد عندها) أي عند العين الحمئة، وهو البحر، (قوماً) فلما وجد هؤلاء القوم خيَّرهم- بوحي من الله- بين أن يعذبهم بالقتل أو بغيره، أو يحسن إليهم، وذلك لأن ذي القرنين ملك عاقل، ملك عادل، ويدل لعقله ودينه أنه قال: (أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً. وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً) [الكهف: 87-88] أي سأجعلهم قسمين: أما من ظلم نفسه بالكفر والشرك، فإنه تحصل له العقوبتان: عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة، وأما القسم الثاني، وهو المؤمن العامل للصالحات، فله جزاء عند الله بالحسنى (وهي الجنة) وسنحسن إليه، ونلطف له القول، ونيسر له المعاملة، وهنا وقفة: تدل على كون ذي القرنين من الملوك الصالحين، والأولياء العادلين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله، ثم قال تعالى: (ثم أتبع سببا*ً حتى إذا بلغ مطلع الشمس) (الكهف: 89-90] أي : لما وصل إلى مغرب الشمس كرَّ راجعاً قاصداً مطلعها، متبعاً للأسباب التي أعطاه الله، فوصل مطلع الشمس- أي موضع طلوعها- (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً) [الكهف: 90] أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس؛ إما لعدم استعدادهم في المساكن لعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، (ثم أتبع سبباً* حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً) [الكهف: 92-93] والسدان هما جبلان عظيمان بينهما منفذ ينفذ منه الناس، عند ذلك المكان وجد ذو القرنين قوماً لا يكادون يفهمون الخطاب والقول، وذلك لعجز ألسنتهم، وقد أعطى الله ذي القرنين من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفهم ما يريدون، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج ، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم، فقالوا: (إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) [الكهف: 94] بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك (فهل نجعل لك خرجاً) [الكهف: 94] أي: جُعلاً (على أن تجعل بيننا وبينهم سداً) [الكهف: 94] أي حاجزاً يمنع من حضورهم إلينا، فعرضوا عليه أن يعطوه شيئاً، ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرةً، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي وهو: إفسادهم في الأرض، فلذلك أجابهم  إلى طلباتهم لما فيها من المصلحة، ولم يكن ذا طمع ولا رغبة في الدنيا، ولذا لم يكن يأخذ منهم أجرة، بل شكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم (ما مكنِّي فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) [الكهف: 95] يعني الذي مكنني ربي من الملك والمال والخدم وكل شيء خير من هذا الخرج الذي تعرضونه عليّ، وهكذا عباد الله الصالحون عندما تتجدد لهم نعمة، فإنهم يتذكرون نعم الله عليهم، ويشكرونه على ما أولاهم به من جزيل عطائه بخلاف الجاحدين والغافلين عن ذكر الله وعظيم منته، فإن هؤلاء لا تزيدهم النعم إلا أشراً وبطراً- والعياذ بالله- يقول سليمان- عليه السلام- في هدية ملكة سبأ قال: (أتمدوننِ بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون) [النمل: 36] وهذا اعتراف الإنسان بنعم ربه- عز وجل- التي لا يحتاج معها إلى أحد (فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) [الكهف: 95] أي أعينوني بقوة منكم بأيديكم لا بأموالكم، حتى أجعل لكم مانعاً وحائلاً بينكم وبين هؤلاء المفسدين في الأرض، فقد رأى ذو القرنين أن أيسر طريقة لإقامة هذا السد هي ردم الممر بين السدين الطبيعيين (الجبلين) فأمر بجمع الحديد، وجعلوه يساوي الجبال (آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا) [الكهف: 96] يعني إذا ساوى الحديد بين الجبلين (قال انفخوا) يعني انفخوا على هذا الحديد بالآلات والمعدات، فنفخوا (حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً) [الكهف: 96] أي أوقدوا على الحديد إيقاداً عظيماً حتى إذا اشتد حر هذا الحديد ولهيبه، طلب ذو القرنين قطراً ليفرغه عليه، والقطر هو النحاس المذاب، فأفرغ عليه قطراً- نحاساً فاشتبك النحاس مع قطع الحديد، فاستحكم السد استحكاماً هائلاً ، وامتنع به من وراءه من الناس، من ضرر يأجوج ومأجوج، (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) [الكهف: 97] أي لا قدرة لهم على الصعود عليه لارتفاعه، ولا على نقبه لإحكامه وقوته، فلما فعل ذو القرنين هذا العمل الجليل وهذه الخدمة النافعة أضاف النعمة إلى موليها وقال: (هذا رحمة من ربي) [الكهف: 98] أي من فضله وإحسانه عليّ، وهذه حال الصالحين، إذ منّ الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم واعترافهم بنعمة الله، (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً) [الكهف: 98] يعني: إذا جاء وعد الله سبحانه بخروج يأجوج ومأجوج ، جعل الله هذا السد دكاً: أي منهدماً تماماً وسواه بالأرض، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجـوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها)  متفق عليه، وصدق الله العظيم ورسوله الكريم، فإن خبرهما فـي خروجهم كان حقاً، فلا بد أن يقع، فإن الله لا يخلف الميعاد لكماله وقدرته، وكمال صدقه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث