الخطبة الثانية

   الحمد لله ربنا تعاظم، فاقتدر، وتعالى جبروته، فقهر، كتب العزة لمن أطاعه، فارتقى، وانتصر، وجعل الذلة والصغار لمن عصاه، فكان المدحور الأصغر، أحمده سبحانه، وأشكره، وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله الخبير بما بطن، وظهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى من البشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المحشر.

  اتقوا الله، عباد الله! فتقوى الله عروة ما لها انفصام، وتستضيء بها القلوب والأفهام.

أيها المسلمون!

   إن من خاف الله تعالى وخشيه على نحو ما ذكر، فقد عبد الله حق عبادته، وأمن يوم الفزع الأكبر، وارتاح يوم يضطرب الناس، ويطغى عليهم الخوف والبأس، "ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا أن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ".

أيها المسلمون!

   إن الخوف من الله سمة من أعظم سمات المؤمنين، وصفة من صفات المتقين، بل هو شرط من شروط الإيمان، ومن مقتضيات عقيدة الإسلام، قال تعالى : ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) [آل عمران: 175] وقال تعالى عن العلماء العالمين الربانيين: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28].

  وهكذا - عباد الله - حال السلف من الصحابة والتابعين، جاء في الصحيحيـن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فقال: (لو تعلمـون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)  ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى، قال الراوي: فغطى الصحابة رضوان الله عليهم رؤوسهم ولهم خنين ، لقد أثرت فيهم موعظته عليه الصلاة والسلام، فأجهشوا بالبكاء خوفاً من مستقبل لا يدرون كيف يكون؟

   وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد المبشرين بالجنة، وإذا سلك طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر، اسمعوا إليه وهو يقول من شدة الخوف من الله: ( يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبونه، فذبحوني لهم، فجعلوا بعضي شواء، وبعضي قديداً، ثم أكلوني، ولم أكن بشراً) وهذا أحد الصحابة رضي الله عنه تنهار قواه، ويخرّ مغشياً عليه لما سمع قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع) [الطور: 7] والآخر يغمى عليه عندما سمع قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) [الجاثية: 29]. فيقسم هذا الصحابي عندما أفاق يقول: وعزتك لا عصيتك جهدي أبداً، فأعني بتوفيقك على طاعتك، ويقول موسى بن سعد رحمه الله: ( كنا إذا جلسنا إلى سفيان الثوري، كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه).

أيها المسلمون!

 لقد تضاءلت هذه الصور المشرقة في واقع كثير من المسلمين اليوم فضعف الخوف من الله، وقلّ الإشفاق من المصير، وأُمِن هول المطلع، وهان على   كثير منهم شرب النفاق إلى القلوب، وأمنوا من مكر الله، فالذين يتقلبون بنعم الله، ولا يشكرونه عليها، بل يعيثون فيها فساداً، والذين يتثاقلون في فعل الطاعات، ويتكاسلون عنها، في الصلوات متأخرون، وعن الإنفاق بخلون، وعن المبادرة إلى الخيرات متشاغلون، والأطمُّ من هذا أن بعضاً منهم في المعاصي منغمسون، أنعم الله عليهم، فطغوا بنعمته، وكفروا، ولم يشكروا، وأعموا عيونهم وأبصارهم وبصائرهم عن العواقب والنتائج، فأمنوا العقوبات، وركنوا إلى الدنيا، فحريّ بهؤلاء أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

   كل هذا وذاك مرده ضعف الخوف من الله، وعدم استشعار عقوبته، والأمن من عذابه (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) [الأعراف: 99].

   فاتقوا الله، عباد الله ! وقفوا مع أنفسكم محاسبين، ولأعمالكم متأملين، واستشعروا عظمة ربكم، وعظِّموا خوفه في نفوسكم، (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب...) الآية (غافر: 1-2).

   رزقني الله وإياكم قوة في اليقين، وعزماً على الجد والعمل القويم، وخشية صادقة لرب العالمين، وصلوا وسلموا على النبي الأمين وآله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، كما أمر الباري بذلك في كتابه الكريم بقوله: (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي........).



بحث عن بحث