من مقتضيات العقيدة : الرجاء

الخطبة الأولى

  الحمد لله رب العالمين، ملاذ الخائفين، وأمل الراجين، واسع الفضل والجود، فكرمه لا يحد، وعطاؤه لا ينفد، فهو أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، أحمده سبحانه وأشكره شكر العارفين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً سيد الذاكرين، وقدوة الراجين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.

   أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته، واتقوه تفوزوا برضاه وجنته.

أيها المسلمون!

  إن من إحدى مقتضيات عقيدة المسلم، وأحد معالم التوحيد، دليلاً من دلائل الدين، وعنواناً لعبودية المسلم لربه، الخوف من الله سبحانه وتعالى وخشيته، فهو الحادي إلى ترك المعاصي، لكن هذا الخوف لا يعيش فيه لوحده دون ما يعادله من الرجاء وقوة الأمل، فإذا عبد المسلم ربه بالخوف وحده، أدّى ذلك إلى نتائج سلبية من اليأس والقنوط ، والقعود عن العمل، والنياحة على كل أمر مفقود، وتخلّف هذا الخائف عن كل أمر إيجابي سليم، والخوف المحمود هو الذي يعيش فيه المسلم جنباً إلى جنب مع الرجاء الصادق، وهما في قلب المؤمن كجناحي الطائر، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: جناحا قلب العبد المؤمن يطير بهما إلى الله تعالى، ومتى افتقد الطائر جناحيه أو أحدهما، فهو عرضة لكل صائد وكاسر.

   فرجاء المسلم بربه هو الجناح الثاني لقلب المؤمن، والمقصود به هو ارتياح لانتظار ما هو محبوب لدى الراجي، وأمل بالحصول على المراد، وطمع سائق إلى طلبه، والرجاء هو استبشار بفضل الله تعالى، والثقة بجوده وموعوده، وارتياح لما أعدّه لأوليائه.

   وهذا الرجاء الصادق من شعب الإيمان وفروعه ودلائله، كما أن الخوف الحقيقي المحمود كذلك.

أيها المسلمون!

   ذكر الإمام ابن القيم، رحمه الله رحمة واسعة، أن الرجاء ثلاثة أنواع:

أما النوع الأول: فرجاء رجل عمل بطاعة الله تعالى على نور من الله، فهو راج لثواب الله، كمن يصلي تعبداًَ لله تعالى، واستجابة لأمره، وانقياداً له، وكذا بقية الطاعات.

والنوع الثاني: رجاء رجل أذنب ذنوباً، ثم أقلع عنها، وتاب، وأناب إلى ربه، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه، وجوده وحلمه وكرمه، كمن يتساهل في أمر الصلاة مع الجماعة، ويتأخر عنها، ثم تاب من هذا الفعل، ورجع إلى ربه، وندم على ذنبه، فهو يرجو أن تقبل توبته، ويغفر ذنبه.

والنوع الثالث: رجاء رجل متمادٍ في التفريط والخطايا والذنوب، فهو يتقلب في المعاصي، وينتقل من معصية إلى أخرى، كمن لا يدفع زكاة مالــه، ولا يصلي في المسجد، ويرتكب بعض المحرمات، كالتعامل بالربا والغش والخداع والغيبة والنميمة والحسد والحقد، فهو يرجو رحمة الله مع تماديه بمعاصيه، وعدم إقلاعه عنها وإصراره عليها.

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبــي جعلت رجائي  دون عفوك سُلَّما

تعاظمني ذنبي فلما  قرنتــــه      بعفوك ربي كان عفوك أعظمـا

فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل     تجود وتعفو منةً وتكرُّمــــا

أيها المسلمون!

   هذه أنواع الرجاء، فالأول وهو: من يرجو ثواب الله تعالى على عمله الصالح، والثاني: الراجي مغفرة ذنوبه من خطاياه، فهذان رجاءان محمودان مطلوبان، وهما اللذان يجب أن يعتقدهما المسلم ويعمل بهما، وهما من الرجاء المشروع، وهذا الرجاء هو الذي يبعث العبد على فعل الطاعات والإكثار منها، وعمل كل ما يقرب إلى الله تعالى، وبه يحذر من الوقوع فيما يسخط الله تعالى ويغضبه، قال تعالى مؤكداً هذا المعنى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) [الكهف: 110] وقال تعالى فيمن اتصف بهذه الصفة الشرعية المحمودة، والخصلة العقدية المهمة: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله) [ البقرة: 218] وقال سبحانه: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) [الإسراء: 57] .

  وروى مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاث- يقول: " ولا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن" . وجاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي" . ويقول سبحانه مبيناً ضرورة الرجوع إليه والتوبة والإنابة، وفي حال ذلك يفرح المؤمن بما أعده الله تعالى لهؤلاء التائبين: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) [الزمر: 53].

أيها المسلمون!

   فرصة عظيمة، ومنحة جليلة لمن أذنب ذنباً، أو قصّر في حق من حقوق الله تعالى، أو اقترف إثماً أو خطيئة أن يقدّم توبة صادقة لله عز وجل، وأن ينيب إليه، ويعزم على أن لا يعود إلى معاصيه مرة أخرى، فإن قام بذلك فالله سبحانه قد فتح أبوابه للتائبين، والراجين، فهو يغفر الذنوب جميعاً، بل ويبدل السيئات حسنات، فأين المقصرون ليرجعوا إلى ربهم، ويستغلوا هذه المنح العظيمة والنعم الكبيرة؛ ليسبغ عليهم ربهم رحمة من عنده ومغفرة؟

  وفرصة أعظم ومنحة أجل لمن تفضل الله تعالى عليهم بعمل ما استطاعوا من الأعمال الصالحة، فسابقوا ونافسوا، فعليهم الإكثار والزيادة، وليبشروا ويأملوا بما أعده الله تعالى لهم من الخير العميم والفضل الواسع، وزيادة الأجور، ومضاعفة الدرجات والمنازل العلى في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون!

   هذه الدنيا دار الأعمال، والمسابقة إلى الخيرات والتنافس في الطاعات، فإلى متى الإهمال وتضييع الأوقات، والتساهل في الواجبات فضلاً عن النوافل والمستحبات؟

   عجباً لأقوام أنعم الله تعالى عليهم، وجحدوا، وأسبغ عليهم الصحة، فانشغلوا وتشاغلوا، ومنحهم القوة والشباب ففرطوا وأضاعوا، فاللهَ اللهَ في العودة إلى الله، قبل الندم، ولات ساعة مندم، ( أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله) [الزمر: 56] أو تقول: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) [المؤمنون: 100] فاتقوا الله، عباد الله! وسيروا بأعمالكم بين خوف عقاب الله، ورجاء رحمته وثوابه.  

      نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث