من مقتضيات العقيدة : الصبر

الخطبة الأولى

   الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب، أحمده سبحانه الكريم الوهاب، وأشكره على نعمه وآلائه شكر العبد الأواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة يوم الحساب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام وصبر وصابر ودعا وأناب، صلى الله عليه وعلى الآل والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم إلى يوم المصير والمآب.

   أما بعد : عباد الله ! اتقوا الله، فإن تقواه سبب للنجاة من العذاب، وموصلة إلى دار المتقين بغير حساب.

أيها المسلمون! خصلة حميدة، وخلة كريمة، ومقتضى من مقتضيات العقيدة، وشعبة من شعب الإيمان، لا يقوى عليها إلا الأفذاذ، ولا يتحلى بها إلا الموفقون، ولا يصطبغ بها إلا أقوياء الإيمان، جاء ذكرها مقترناً بخصلة أخرى تكملها هي شكر الله على نعمه وآلائه ومننه وكرمه، فيشكر العبد ربه مولاه على ما متعه من النعم وأسداه، ويحذر من كفرانها والعبث بها، وجحدانها وصرفها لغير الله تعالى.

  أما إذا أصيب المسلم بقدر من أقدار الله المؤلمة، وحلت به مصيبة أو اجتاحت ماله وحلالَه جائحةٌ، أو فقد عزيزاً أو محبوباً، أو تعرض لمرض وذهاب عَرَض، فهذه المحن ليس لها دواء إلا الصبر عليها، وإن بعد العسر يسراً، وبعد الشدة فرجاً، وبعد الضيق مخرجاً.

أيها المسلمون!

   إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس في هذه الحياة ولم يتركهم سدىً يعيشون فوق هذه الأرض كيف شاؤوا، لا يعرفون ربّاً، ولا يعتنقون ديناً، ولا يحكم سلوكهم أخلاق وآداب،  بل خلقهم وكلفهم وابتلاهم على هذا التكليف، قال تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [الملك: 1، 2] وقال سبحانه : (الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) [العنكبوت: 1] فكلفهم الله سبحانه وتعالى بعبادته فوق هذه الأرض التي استخلفهم فيها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56].

  وعبادة الله سبحانه: أمر ونهي، فعل وترك، قيام بأوامر الله تعالى، واجتناب لزواجره ونواهيه، ومن رحمته سبحانه أنه دل عباده على الخير وسبله، ليعرفوه، ويقوموا به، ويتصفوا به، ويبادروا إلى المسابقة فيه، وعرفهم الشر، ليتركوه ويبتعدوا عنه، وجعل الخير موصلاً إلى جنته ورضاه، وحف ذلك بالمكاره، وجعل الشر موصلاً إلى عذابه وعقابه، وحف ذلك بالشهوات والأهواء، فكلٌّ مِنْ عمل الخير، وترك الشر يحتاج من العبد إلى مجاهدة ومصابرة، صبر على فعل الطاعات، وامتثال الأوامر، وفعل القربات، وصبر على ترك المعاصي والسيئات، والابتعاد عن المكروهات والمشتبهات، وصبر على أقدار الله الجارية التي تخالف الرغبات، ويأتي على الملذات والمحبوبات، وتعارض ما يريده العبد من الشهوات.

   فهذا الصبر عامل أساس، وعنصر مهم، ووسيلة لا غنى للمسلم عنها في دروب الحياة؛ ليخرج منها سالماً غانماً.

أيها المسلمون!

   لا شك أن طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره تحتاج إلى صبر عليها؛ لأن منها ما تنفر منه النفس بسبب الكسل والخمول، والضعف والفتور كالصلاة، أو تنفر عنه النفس بسبب البخل والشح، وحب المال، وطغيان المادة كالزكاة، أو سببهما جميعاً، كالحج والجهاد، أو تنفر عنه النفس بسبب خور النفس، وعدم عزيمتها، وضعف إرادتها أمام شهواتها، كالصيام، أو بسبب الخوف والوجل، أو الاستحياء والخجل، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله تعالى، والنصيحة لعباده، وغير ذلك من الطاعات والقربات، فكلها تحتاج إلى عزيمة وصبر ومصابرة، فلا تنال الدرجات العلى وجنان الفردوس إلا بهذا الصبر.

   ولا شك- عباد الله- أن عزيمة النفس تجاه المعاصي بأنواعها صغارها وكبارها، وبخاصة ما تميل إليه النفس وترغبه وتهواه- ولو كان في ذلك مضرة لها- فأمام زيادة المال أضعافاً مضاعفة بالربا والحيل والرشوة والتدليس، تحتاج النفس معه إلى إحكام زمامها وخطامها، وأما شهوات النفس تجاه الزنا ودواعيه، تحتاج النفس معه إلى ردعها وإرغامها على تركه، وأمام رغبات النفس تجاه النيل من الآخرين وخدش أعراضهم والتلذذ بأكل لحومهم من غيبة ونميمة وكذب وحسد وحقد وبغض وشحناء تحتاج إلى كبحها وردها إلى الجادة والطريق المستقيم وغيرها من المعاصي والسيئات تجاه الخلق والخالق.

   والنفس بطبيعتها ميالة إلى رغباتها وشهواتها:

والنفس راغبة إذا رغَّبْتَها                 وإذا تُرَدُّ إلى قليل تَقْنَع

   وقد تنجر وراء أشياء محرمة ومكروهة، فما أحوج المؤمن إلى إرغام نفسه بترك هذه الشهوات المحرمة والابتعاد عن الأفعال المكروهة والمشتبهة، وما أحوجه إلى الصبر عنها، وبخاصة ما يثقل على النفس كالغيبة والكذب والمراء، والثناء على النفس تعريضاً أو تصريحاً، وكذا الازدراء والسخرية والاحتقار، والحرص على المال والجاه والمنصب ونحوها.

أيها المسلمون!

   والإنسان في هذه الحياة لا يدري ما يعترضه من أقدار الله سبحانه التي لا تقع باختياره من الأمراض المؤلمة، والمصائب المتوالية، وموت القريب، وفقدان الحبيب، وتقطع السبل والحيل، وقلة ذات اليد، واجتياح المال والخسارة فيه، والابتلاء بالحسد وأهل الحقد والغيرة، وغير ذلك ، مما يقدره الله سبحانه وتعالى لحكمة يعلمها، يبتلي عباده بذلك للوصول إلى النتيجة (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [الملك: 2]، والنفس تميل إلى التسخط والجزع والاعتراض على المقدور، وهذا يحتاج إلى مقاومة ومجاهدة بالصبر والرضى، وأن يعلم المؤمن أن (ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)  كما قال عليه الصلاة والسلام، وليعلم أن كل شيء يكون في هذه الحياة من خير أو غيره إنما يتم بقدر الله تعالى المكتوب في اللوح المحفوظ (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) [التوبة: 51]. والمؤمن الواثق بربه المتمسك بدينه، الراضي لما أصاب، الشاكر لمولاه هو الذي ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن" .

  اللهم ارزقنا الصبر، وأعنا عليه، واجعلنا من عبادك الصابرين الراضين الشاكرين.

   نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث