التبرج والسفور

الخطبة الأولى

  الحمد لله الذي بيَّن لنا طريق الخير والرشاد، وحرم وسائل الشر الفساد، وقمع أهل الزيغ والعناد، أحمده سبحانه وأشكره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم التناد. أما بعد:

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

أيها المسلمون!

    إن الله تعالى قد هدانا لهذا الدين الحق، وجعله منهاجاً للحياة، من استمسك به أفلح ونجا ومن تخلى عنه خاب وهلك، وإن من أعظم ما يهدف له الدين حماية الأعراض وسد كل سبيل لانتهاكها، ووضع العقوبات لمن تعرض لها. ومن ذلك أنه منع التبرج والسفور، وخلو المرأة بالرجل الأجنبي، سداً لباب الفساد، ومنعاً لحدوث ما لا تحمد عقباه.

   لهذا فقد أمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر عام لهن ولغيرهن من نساء المؤمنين، بالقرار في البيت، وعدم التبرج، يقول الله تعالى: ( يا نساء النبي لستنَّ كأحدٍ من النساء إنْ اتَّقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقُلنَ قولاً معروفاً، وقرن في بيوتكنَّ ولا تبرجنَّ تبرَّج الجاهليّة الأولى) ]الأحزاب: 33] فالله تعالى ينهى نساء النبي عليه الصلاة والسلام عن الخضوع وتليين الكلام، ويأمرهن بالاستقرار في بيوتهن؛ لكيلا يطمع من في قلبه مرض في شهوة الزنا، فيميل إليهن. والعياذ بالله، فإذا كان هذا النهي لنساء النبي الطاهرات العفيفات، فكيف بغيرهن من النساء؟ فغيرهن أولى بالبعد عن القول الفاحش، أو تليين الكلام، ولذلك أمر الله تعالى النساء بالحجاب عند الرجال الأجانب، يقول الله تعالى: ( يا أيُّها النبي قل لأزواجك ونساء المؤمنين يدنين عليهنَّ من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيماً). [الأحزاب: 59].

   وكما أمر الله النساء بتغطية محاسنهن من الوجه والشعر وغيرهما، فقد أمر الرجال والنساء بغض الأبصار، وحفظ الفروج، فقال تعالى: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها..) [النور: 30-31].

   قال ابن مسعود: أي ما ظهر من اللباس، فأمر الله بغض البصر وحفظ الفرج، وما ذلك إلا لعظم فاحشة الزنا، ولأن إطلاق البصر في النظر للمحرمات من وسائل مرض القلب ووقوع الفاحشة.

أيها المسلمون!وإن من أعظم أسباب الفساد التي حرمها الإسلام خلو الرجل بالمرأة، وسفرها بدون محرم سواء كان بالطائرة أو السيارة أو أي وسيلة أخرى ، ففي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: الحمو (الموت) . والحمو قريب الزوج.

  وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلـونَّ أحدكــم بامرأة إلا مع ذي محرم) متفق عليه . وفي الحديــث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما).

أيها المسلمون!

   هكذا يريد الإسلام من المرأة أن تبقى عفيفة طاهرة، جوهرة مصونة، ذات دين وخلق، وينبوعاً فياضاً في تربية أبنائها تربية إسلامية تنفعهم في دنياهم وأخراهم مجاهدين في سبيل الله، صالحين ينفعون أنفسهم ووالديهم ومجتمعهم.

  ولقد فهم النساء الأوائل هذا المعنى، فضربن أروع المواقف في التمسك بالدين والتضحية من أجله، ولنسمع موقفاً من تلك المواقف.

   فهذه الخنساء رضي الله عنها، هذه المرأة الشاعرة، والتي حين توفي أخوها صخر في الجاهلية بكت عليه بكاءً مراً، وقالت فيه ما قالت من الشعر ترثيه فيه، فلم يجف لها دمع ، ولم يغمض لها جفن، ولم تزل كذلك حتى تغير حالها وأوشكت على الهلاك، ومما قالت في رثائه:

     يذكرني طلوع الشمس صخراً       وأذكره بكل غروب شمــسِ

     فلولا كثرة الباكين حولــي           على إخوانهم لقتلت نفســي

ومما قالت أيضاً :

    أَعَيْنَيَّ جُودا ولا تجمـــدا              ألا تبكيان لصخــر النـدى

    ألا  تبكيان الجريء الجـواد          ألا تبكيان الفتى  السيـــدا

   إلى غير ذلك من الأشعار الكثيرة، لكنها حينما أسلمت، وحسن إسلامها تغير وضعها، واختلف منهجها، وتغلغلت عقيدة الإيمان في سويداء قلبها، وارتبط قلبها بالله تعالى، فربَّتْ أولادها على الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله تعالى، فأصابتها المصائب، ونزلت بها المحن، وظلت صابرة محتسبة؛ فتذكر لنا كتب التاريخ والسر أنه كان لها أربعة أولاد في مقتبل أعمارهم، وزهرة شبابهم، يفيضون حيوية ونشاطاً، يملؤون حياتها بهجة وأنساً، وكانت جالسة معهم في يوم من الأيام، وهم يأكلون الطعام، وينادي المنادي، الصلاة جامعة! أمير المؤمنين يدعوكم للاجتماع، فتهب الأم قائلة لأولادها : أسرعوا يا أولادي، فعمر أحق أن يؤتى. ويخرج هؤلاء الأبطال، ثم يعودون بعد وقت قصير، والأم في انتظارهم تسألهم الخبر، فقالوا: إن أمير المؤمنين طلب منا السرعة للخروج لمساعدة جيش المسلمين في القادسية، فما رأيك يا أماه؟ وترد قائلة لهم: وهل هذا يحتاج لمشورة يا أولادي؟ ثم يقولون لها بلسان الرحمة والشفقة: ما أردنا هذا يا أماه! إنما أردنا أن يبقى أخونا الصغير عندك يرعاك، وليقوم بحاجتك. فقالت لهم: وهل يرضى أخوكم أن تسبقوه إلى المغفرة والجنة؟ اذهب معهم يا بني. ثم يحين موعد الرحيل، فتقبِّل الأم أبناءها الأربعة، وفلذات كبدها، وتضمهم إليها، فلعلها لا تلقاهم بعد ذلك، وتقوم معركة القادسية، وينتصر المسلمون،  ويستشهد أبناؤها الأربعة، ثم يعود جيش المسلمين بالظفر والنصر.

   فتخرج الأمهات لاستقبال أولادهن وأزواجهن وإخوانهن، والكل فرح مستبشر. وتنتظر الخنساء الخبر، فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين يطرق الباب عليها، فتأذن له بالدخول، فيسلم عليها، وترد عليه وتقول: خيراً إن شاء الله! فيقول لها: جئت أحمل إليك البشرى. فتقول له: وما هي؟ فيقول الخليفة عمر: لقد اختار الله أولادك الأربعة شهداء في سبيله، فتطرق الخنساء رأسها، ثم ترفعه وتقول: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

   هكذا كان نساء الصحابة في تربية أبنائهن وحرصهن على تطبيق أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه. (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) [الأحزاب: 21]. نفعني الله وإياكم. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث