وقفات مع الإجازة الصيفية

الخطبة الأولى

   الحمد لله المنعم الوهاب، خلق البشر من تراب، وسخر الشمس والقمر ليعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيء فصّله، فهو عنده في كتاب. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملك الملوك ورب الأرباب. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه الكتاب، وهزم به الأحزاب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم إلى يوم المآب.

أما بعد:عباد الله! اتقوا الله تعالى حيثما كنتم؛ تفلحوا وتفوزوا في دنياكم وأخراكم.

   أيها المسلمون! ها هي الأيام والليالي تدور، ما بين فصول وشهور، وأحوال وأمور، بينها تفاوت كبير. ما بين شتاء وصيف، ودراسة وإجازة، مواسم للجد والاجتهاد، وأخرى للاستجمام والترويح.

   وكما أن بين هذه الأحوال العديدة تبايناً وتفاوتاً، فكذلكم الحال بين الناس في التعامل مع هذه المواسم.

   وقد بيّن لنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ميزاناً دقيقاً، في عبارة جامعة، يستطيع كل امرىء أن يزن به حاله، قبل أن يوزن عليه يوم الحساب (يوم لا تملِكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً) [الانفطار: 19].

   وذلكم – عباد الله- فيما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".

نعمعباد الله! إنه ميزان دقيق عجيب، ومن هنا علينا أن نراجع أعمالنا وأوقاتنا من منطلق الربح فيها أو الخسارة، وليس المعيار هنا مالياً أو مادياً، بل هو أن تكون هذه الأعمال والأوقات في الطاعات وعمل الصالحات، فيثقل بها ميزانك يوم تلقى رب البريات، فيسألك عن عمرك ومالك ووقتك.. فيم أنفقتهم؟!

   فإن الوقت في الحياة هو رأس المال والزاد للاستعداد ليوم المعاد:

دقات قلب المرء قائلة له                إن الحياة دقائق وثوان

   وخير من ذلك قول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟" (رواه الترمذي، وحسنه، عن ابن مسعود رضي الله عنه).

أيها المؤمنون! وإن مناسبة هذا الحديث من الوضوح بمكان فها هي الإجازة الصيفية على الأبواب، ويوشك موسم الاختبارات على الرحيل، بعد أيام من التوتر والشد العصبي، وليال من السهر والأرق، من أجل النجاح والتفوق، ورفعة الدرجات.

   ولكن – عباد الله- هل من وقفة للتساؤل؟

  من ذا الذي يعيش المشاعر نفسها؛ من قلق وتوتر وأرق، من أجل صلاح أولاده، والسعي على رفعة درجاتهم في الجنة؟

  من ذا الذي يؤرقه تأخر أولاده عن صلاة من الصلوات، مثلما يؤرقه تأخرهم الدراسي ونقص الدرجات؟!

    إننا لا نشك في وجود هذا الصنف المبارك بين الناس، وهم كثير، ولله الحمد، والله أعلم بهم منا، ويتولى أجرهم ، ولكن قليل ما هم.

   قليل من يتابع مواظبة أولاده على صلاة الفجر، ويتحرى ذلك، كما يتابع مواظبتهم على درسهم واستيقاظهم لموعد اختبارهم!

   قليل من يرفع أكف الضراعة بانكسار لله تعالى داعياً لهم بالتقوى والصلاح والهداية والثبات باللهفة نفسها في الدعاء لهم بالنجاح في الدراسة!

   فأين الخلل أيها المسلمون؟! وأين مكمن الداء حتى نصل إلى الدواء؟! إنها الغفلة من بعض الناس، وضعف الإيمان؛ خف ميزان الآخرة في القلوب، وطغى حب الدنيا وشغل الجانب الأكبر فيها.

   أيها المسلمون ! ليس هذا الكلام دعوة لإهمال دنيانا، أو دراسة أولادنا، ولا هي دعوة لتقليل شأن النجاح والتفوق، الذي تحتاج إليه الأمة في أجيالها الناشئة.

   بل هي دعوة لوزن الأمور كلها بميزان قرآني نبوي، وتقديم ما قدّمه الله، وإعطاء كل ذي حق حقه، بميزان الوحي لا الهوى.

   قال الله جل وعلا : (وابتغ فيما آتاك اللَّه الدَّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) [القصص: 77]. فقدّم جل وعلا الآخرة؛ لأنها الباقية، وما الدنيا إلا مزرعة لها، فينبغي لكل مسلم جعل ابتغاء الدار الآخرة غايته من كل عمل وسعي في هذه الحياة، فله نية لله تعالى في سعيه على معاشه وقيامه على أهله وعياله، كما له نية في صلاته وزكاته وسائر العبادات.

   وبرهان الصدق – يا عباد الله- فيمن ادعى أن له نية في أعماله الدنيوية، ألا تكون سبباً في شغله عما افترض الله عليه من العبادات والقيام بالأوامر والواجبات، واجتناب المنهيات والمحرمات.

   أيها المسلمون! وفي الإجازة الصيفية ميدان كبير لتصديق ذلك؛ باستثمارها في الخير، بحكمة وفطنة؛ لنجمع لأولادنا بين المتعة والفائدة، والترفيه والتربية، والتعليم وتنمية القدرات والمواهب، وقضاء الوقت فيما يفيد.

   وإنه لأمر عظيم في عالم يموج اليوم بأمواج متلاطمة من وسائل الفساد والفتن، من فضائيات وإنترنت، وإعلام هابط، مع تعدد عناصر التأثير، وكثرة مصادر التربية.

   لكنه يسير على من يسّره الله له، ممن أخلص النية، وتوجه إلى ربه تعالى بسؤاله العون على الأمانة والمسؤولية.

   قال الله جل وعلا: (إنْ يعلمِ الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً) [الأنفال: 70] ، وقال سبحانه : (ربُّكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنَّه كان للأوَّابين غفوراً] [الإسراء: 25].

   أيها الإخوة في الله! إن من أمانتنا في القيام بشؤون بيوتنا وأهلينا، أن نجتهد في تلبية متطلباتهم ، وشغل فراغهم، وتنويع الأنشطة لهم في الإجازة؛ حتى نحقق لهم الفائدة التربوية مع الترفيهية.

   فمن ذلك: إلحاقهم بحلقات تحفيظ القرآن المباركة، وتكثيف برامج الحفظ والمراجعة لكتاب الله، مع منحهم الحوافز والجوائز على ذلك.

   ومن الوسائل أيضاً: الأندية الصيفية المنتشرة في جميع الأحياء في موسم الإجازة؛ لشغل أوقات الناشئة بكل نافع مفيد.

  ومنها أيضاً : إلحاقهم بالدورات العلمية ودروس المساجد.

  ومن الوسائل: وضع برامج مباركة لصلة الرحم وزيارة الأقارب، خصوصاً من يصعب صلتهم في موسم الدراسة.

   ومن أفضل الأعمال في الإجازة: زيارة الحرمين الشريفين وأداء العمرة. كل هذا مع برامج ترفيهية جميلة ومبتكرة، ونزهات ورحلات ترفيهية، يصحب فيها الوالدان أولادهم، بلا ولوج في منكرات، أو وقوع في محرمات، أو تضييع لفرائض.

   وما أحسن أن يصاحب ذلك من التشجيع والحوافز والترفيه- المباح ما يدخل السرور عليهم، ويزيدها التفافاً حول والديهم.

   ولله در آباء وأمهات يتفننون فنوناً من ذلك لا تدع فرصة لتسرب السأم والملل إلى قلوب أبنائهم وبناتهم، ولا ثغرة يلتجؤون منها إلى منكر أو فساد. إنها الهمة العالية في التربية، والرغبة فيما عند الله تعالى، تثمر التوفيق والسداد بإذن رب العباد.

   أسأل الله أن يوفق المسلمين والمسلمات إلى ما فيه صلاحهم وصلاح بيوتهم وأولادهم.

   أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث