الخطبة الثانية:

أيها المسلمون! وأما الصورة الثانية: صورة الفتاة المسلمة، فقد تمثلت في المرأتين اللتين تذودان، فسقى لهما موسى عليه السلام، فقد سطرت الآيات صفة الفتاة المسلمة الحقة، وقد رسمت من خلالها المنهج الحق فيما يجب أن تكون عليه الفتاة المسلمة والمرأة المؤمنة، قال الله تعالى: ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) [القصص: 25] ، يعني جاءت تمشي مشية الفتاة العفيفة الواثقة من نفسها، من غير تبرج، ولا سفور، ولا إغواء، وهذا هو شأن المرأة المسلمة في حلها وترحالها، والحياء من معالم الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: "فإن الحياء من الإيمان" رواه البخاري.

   وإن الحياء من أهم أسباب استقرار الأمم وتنعمها بالخيرات والبركات، فحيثما حل الحياء حلّت معه نعم الله وآلاؤه، وتحل الفضيلة وتسود الأخلاق، لقوله عليه الصلاة والسلام: " الحياء لا يأتي إلا بخير" رواه البخاري ، وهذا يعني أن انتزاع الحياء من أية أمة يعني انتزاع البركة والوئام والأخلاق والفضيلة، كما هي حال بعض الأمم الأخرى.

   أما الصفة الأخرى فهي خروجهن لحاجة:

فلم يكن خروج هاتين المرأتين من البيت إلا لسقي الأنعام، ولم يكن حديثهما مع موسى عليه السلام إلا لضعف أبيهما الشيخ الكبير الذي لا يقدر أن يقوم بسقي الأنعام، وإلا فالأصل أن المرأة تبقى في بيتها، ولا يخرج إلا من يتولــــى أمرها، ولم يكن هذا الكلام متجاوزاً للآداب والأخلاق؛ لأنهما وقفتا بعيدتين عن الرجال، حتى ينتهوا من السقي، ولم يمنعهما من ذلك إلا الأدبُ والإيمانُ اللذان تربيا عليه على يد الشيخ الكبير.

   وهذا المَعْلَمُ العظيم يقرر الأصل بالنسبة للمرأة: أن عملها في بيتها، وأنها لا تعمل خارج بيتها إلا لحاجة لا تقوم إلا بها، مع ضوابط هذا الخروج من الحياء، وعدم الاختلاط بالرجال، فهل يفقه مثقفونا وكتابنا الذين يرمون الكلام على عواهنه، فيكون كل منهم مشرعاً متعدياً على شرع الله؟ فما بال أقلام زلت وانحرفت عن الصراط المستقيم هذه الأيام على صفحات الصحف؟

   والمَعْلَمُ الثالث الذي سطرته هذه الآيات هو: البعد عن مواطن الفتنة:

يقول تعالى: ( ولمَّا ورد ماء مدين وجد عليه أُمَّةً من النَّاس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرِّعاءُ وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولَّى إلى الظل فقال ربِّ إنِّي لِمَا أنزلت إليَّ من خير فقير) [القصص: 23، 24]

   كانت هذه المرأة وأختها تعانيان من رعي الغنم، ومزاحمة الرجال، والاحتكاك بهم على الماء؛ لأن هذا العمل بطبيعته من شأن الرجال، وليس من شأن النساء، وكانتا تريدان العفة والستر في التخلي من هذا العمل الذي يفرض عليهما الاختلاط والاحتكاك مع الرجال، وهذا دليل على عفة القلب والنفس، لأن هذه المزاحمة تسبب لهما خدشاً في هذه العفة، وهذه النظافة الروحية.

    والبعد عن مواطن الفتنة يعني الابتعاد عن الاختلاط بالرجال لغير ضرورة شرعية، لأن من أولى بوادر الفساد والتحلل في المجتمعات هو الاختلاط الذي يحدث بين الرجال والنساء، ومعلوم ما يترتب على هذا الاختلاط من آثار خطيرة تعيشها الآن مجتمعات الاختلاط، وبالتالي الوقوع في مستنقع الفواحش الآسن، وقد حذر الله تعالى نساء الأمة من ذلك في آيات كثيرة، كما في قوله: (يا أيُّها النَّبيُّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهنَّ من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين وكان الله غفوراً رحيماً) [الأحزاب: 59] وهذه الآية مطالبة بإطالة الثياب لستر المرأة وحمايتها من الأشرار الذين في قلوبهم مرض.

    وقوله تعالى: ( قُل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنَّ الله خبيرٌ بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنَّ ويحفظن فروجهنَّ ولا يُبدين زينتهنُّ إلاَّ ما ظهر منها وليضربن بخُمرهنَّ على جيوبهن) [النور: 30، 31] ، ومن هنا فقد سَدَّ الإسلام طرق الفساد وذرائعه.

أيها المسلمون! هذه هي المعالم الأساسية التي سمتها تلك الآيات، وهذا هو المنهج الحق للمرأة المسلمة في المجتمع المسلم، وها هي صورة أخرى للمرأة، هذه الصورة الرائعة للمرأة المؤمنة التي تقاوم ملذات الدنيا ومغرياتها في سبيل الحفاظ على كرامتها وعفتها ، ومن أجل أن يرضى الله عنها.

   ومن تلك النماذج امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران حيث قال فيهما الله تعالى: ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربِّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدَّقت بكلمات ربه وكتبه وكانت من القانتين) [التحريم: 11، 12].

    كانت تلك بعض الصفات التي ميّز الله تعالى بها المؤمنات من غيرهن من النساء، ولكن دعاة التغريب والناعقين له لم يتركوا المرأة المسلمة وشأنها، بل هم ينادون بخروجها لتعمل كالرجال ومع الرجال في جميع الميادين، وهم لا يريدون لها هذا العمل لمصلحتها أو لحاجة العمل إليها، وإنما يريدون أن يكسروا الحاجز بين الرجل والمرأة، ويدمروا الحصن الواقي لكرامتها وعفتها الذي بناه الإسلام لها، وإلا كيف ننادي أن تقوم المرأة بأداء أعمال الرجال، في وقت لا يزال الغرب يدفع ضريبة باهظة جراء خروج المرأة إلى العمل مثل الرجل؟!

   ويقول تعالى: ( يا نساء النَّبيَّ لستنَّ كأحد من النساء إنْ اتَّقيتنَّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً وقَرنَ في بيوتكنَّ ولا تبرَّجنَ تبرُّج الجاهليَّة الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهِّركم تطهيراً) [الأحزاب: 32، 33].

   إذا كان هذا الأمر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن أمهات المؤمنين فكيف نجرؤ على أمر الله تعالى في نساء المؤمنين بأن لا يتبرجن بأن نأمرهن يتبرجن ويختلطن مع الرجال؟ بل كيف نجرؤ أن نتهم هذا الدين بأنه أقعد المرأة في بيتها وهذا كلام الله تعالى واضح وبيّن أن عمل المرأة الأول في بيتها؟ ، لأن لها رسالة في البيت يجب أداؤها، وهي العبادات من الصلوات، وقراءة القرآن، وغيرها، وكذلك تربية الأبناء، فهي التي تخرج الشباب، وحماة الأمة، وتصنع الرجال الذين يدافعون عن حرمات الله، وحمى الإسلام، وحمى الأوطان، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسؤولية بقوله: " والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" ، فهل هناك أعظم من هذا العمل الجبار؟ أم يا ترى! هل يريدون أن يسندوا هذا العمل إلى خادمة ومربية؟

أيها المسلمون!

    هذا لا يعني أن نعادي عمل المرأة المسلمة، بل نريد لها أن تعمل ضمن الضوابط الشرعية التي تضع الأمور في نصابها، بحيث توفق بين عملها الشرعي خارج البيت، وبين تربية أبنائها، والقيام وبواجبها الأسري داخل البيت، فلا يكون عملها خارج البيت على حساب تربية أبنائها، كأن تعمل طول النهار، وتترك تربية الأبناء للخادمات والمربيات.

   نريد أن تعمل في المجالات التي تتعلق بالنساء، ونريد لها أن تكون داعية، وتكون لها مراكز خاصة لها لتعليمها أحكام دينها، ونريد أن تكون مربية، وطبيبة للنساء، وممرضة للنساء، ومشرفة اجتماعية للنساء، وفي محيط النساء، هذا هو شرع الله.

أيها المسلمون!

    من الغبن الفاحش أن نستمد نظمنا وقوانيننا من الملل الكافرة، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: " كفى بقوم ضلالاً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم " سنن الدارمي.

   وقوله صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن" ؟ رواه البخاري.

   إن الأمة بحاجة إلى المرأة المسلمة التي تصون نفسها بقيم الإسلام ومبادئه، وتحافظ على حجابها وكرامتها، وتحميها من الذئاب البشرية، كما حافظت عليه ابنتا الشيخ الكبير، وإن الأمة بحاجة إلى المرأة القابضة علـى دينها كما كانت

امرأة فرعون- رضي الله عنها، وهي في بيت أكبر طاغية، إن الأمة بحاجة إلى المرأة التي تتعلم الدين وأحكامه، وتصبح داعية تعلم مثيلاتها مـن النساء أمور دينهن، كما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

   بصّر الله الجميع بالحق ودلهم عليه، ووقانا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.

  وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، والحمد لله رب العالمين.



بحث عن بحث