الظواهر الكونية وعلاقتها بالعبادة

الخطبة الأولى

   الحمد لله الذي أتقن كل شيء فهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وأثني عليه، وأشهد ألا إله إلا الله العلي القدير، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله النذير البشير، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه التابعين، وكل من على نهجه يسير.. أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

أيها المسلمون!

   خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وسخر لهم ما في السموات والأرض جميعاً منه، فهذا الكون الفسيح الذي أنشأه سبحانه من العدم يدعو الناس إلى التفكر في صنع الله الذي أتقن كل شيء سبحانه، كما أن هذا الكون بكل ما فيه من أرض وسماء وشجر وجبال ودواب وكائنات، يسبح بحمده سبحانه، قال الله جل وعلا: (تُسبِّحُ له السماواتُ السَّبعُ والأرضُ ومن فيهِنَّ وإن من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنَّهُ كان حليماً غفوراً) (الإسراء: 44)

   فهذا الكون البديع في صنعه يعبد خالقه وبارئه سبحانه وتعالى، ولا يزيغ عن أمره وتقديره جل وعلا، ويشهد بعجز كل معبود سـوى الله وبطلانـه : ( هذا خلْقُ اللَّهِ فأرُوني ماذا خلَقَ الَّذين من دونهِ بل الظَّالِمونَ في ضِلالٍ مُبيـــن) ( لقمان: 11).

  أيها المسلمون! وعندما تختل حركات هذا الكون في ظاهرها للناس، أو يصيبهم من المحن ما يصيبهم، لا تخرج هذه التغيرات عن سنن الله عز وجل، وحكمته البالغة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الحياةِ الدُّنيا وهُمْ عن الآخرةِ هُم غافِلونَ) (الروم: 7).

   أيها الموحدون! ولقد جاءت سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بالكثير مـن الإشارات والمعالم، التي تضيء لنا الطريق، ونستطيع من خلالها أن نتدبر فيما يجري حولنا من أحداث ونوازل، بفهم رباني من لدن الوحي المطهر؛ فنزداد إيماناً ويقيناً بقدرة المولى وحكمته جل وعلا.

   ويتلخص هذا الموقف من هذا الكون وظواهره المخيفة في أنها من مخلوقات الله تعالى المسخر للإنسان، يستفيد منها، ويتأمل فيها من العجائب والأحوال التي تدل على عظمة الخالق جل وعلا.

        ففي كل شيء له آيـــة           تدل على أنه واحـــد

   وعجباً من أولئك الذين يلحدون وينكرون، وعجباً من أولئك الذين لا يتفكرون، وعجباً من أولئك الذين تعجبهم صناعات الإنسان، ولم يتفكروا ساعة في هذا الكون العظيم بما فيه.

   ومن موقف المسلم أن يعزو لقدرة الله تعالى كل شيء في الكون، من رياح وأمطار، وفيضانات وثلوج، وزلازل وبراكين، وكسوف وخسوف، وسقوط نجوم وغيرها.

   ومن موقفه أن يوقن أن هذه الظواهر عقوبة للكافرين والعصاة والمذنبين، وعبرة للمؤمنين، فقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد أهلكوا بالريح، وثمود بالصيحة، ولوط قلبت ديارهم عاليها سافلها وهم فيها.

   سبحانك ربي ما أعظمك.. سبحانك ربي ما أوسع حلمك!

   أيها المسلمون! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتغير وجهه، ويتأثر عند رؤية هذه الظواهر الكونية حتى تزول، ويفزع إلى الدعاء والعبادة، جاء في صحيح البخاري، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف في وجهه، قالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، فقال: " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ؟ عُـذب قوم بالريح، وقد رأى قوم الريح ، فقالوا هذا عارض ممطرنا"  .

  فهذا خاتم المرسلين الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يتغير وجهه إذا رأى الغيم، حتى يتبين له هل هو رحمة أو عذاب؟ وما ذاك إلا من خشية الله عز وجل.

   فإذا جاء الخير وسقى الله عباده الغيث استبشر نبي الهدى، ودعا ربه بما يصلح للناس معاشهم، روى البخاري، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال:"اللهم صيِّباً نافعاً " (2) .

  وهكذا حاله صلى الله عليه وسلم مع كل ظاهرة في الكون، ومن ذلك ما رواه الترمذي، وأحمد، وغيرهما، عن طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: " اللهم أهَّله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله" (3) .

  وفي صحيح مسلم، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إلى السماء ، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: " النجــوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" .

عباد الله !

  وقد خالف أقوام سبيل الهدى الإيماني المحمدي في تأمل ظواهر الكون، فعمدوا إلى علوم شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان، فضلوا وأضلوا، وقد حذر نبي الهدى صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الضالين، ومن أعمالهم الباطلة، فروى الطبراني، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها: النجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف السلطان" (2) ، وروى أحمد، وأبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" (3) إلى غيرها من الأحاديث العديدة التي تحذر من دجل هؤلاء المبطلين وأعمالهم.

   أيها المسلمون! ودون ذلك الضلال على سبيل الحق هناك أقوام يدفعهم الجهل إلى أقوال وأعمال وردود أفعال لا تليق بالمؤمن الموصول قلبه بالمولى في كل أحواله، ومن ذلك ما رواه أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الريح، في قوله: " لا تسبوا الريح فإنها تجيء بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا من شرها".

  إلى غيره من الأحاديث التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم، في النهي عن سب الدهر والليل والنهار وغير ذلك مما ينبغي لكل مسلم رشيد أن يتحفظ منه ويصون عنه لسانه أدباً مع المولى عز وجل، واتباعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

   وهكذا تضل العقول، وتضطرب الأفهام إذا ابتعدت عن صراط الحق المستقيم عندما يشتد الهول وتقع الكوارث والحوادث المؤلمة، إلا من رحم الله وبصّره وهداه بإيمانه.

   وإن لكل خلف سلفاً، فالذين يفسرون الحوادث والمحن بأنها تغييرات طبيعية، أو أنها تقلبات بيئية، ونحوها من التفسيرات السطحية الهشة البعيدة عن الفهم الرباني القرآني لما يجري في الكون.. هؤلاء إنما يجددون أقوال سلفهم ممن كانوا يعزون الظواهر الكونية لمسبباتها الظاهرة دون وصلها بخالقها وخالق مسبباتها والناس أجمعين سبحانه وتعالى، ففي الحديث المتفق عليه، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب". (2)

عباد الله !

   هكذا يتفاوت الناس ويتفاضلون في إيمانهم بالمولى عز وجل، ولا عجب في ذلك، فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتفاوت،  فهو يزيد وينقص، ولا شك في ضعف إيمان من يغفل عن تدبيره وحكمته سبحانه، فينسب الظواهر إلى مسبباتها السطحية دون إرجاعها إلى سننه سبحانه وتقديره، هذا إن كان عن غفلة وخطأ في العبارة دون اعتقاد.

  أما من أطلق ذلك، ونفى صلة حوادث الكون بالخالق الجليل جل وعلا؛ فهؤلاء هم الضالون الملحدون، الذين اتخذوا من قوانين الطبيعة المزعومة إلهاً يعبد، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

  بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث