(وقفات مع قصة يوسف عليه السلام) – 6

الخطبة الأولى

  الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، أحمده سبحانه على جزيل نعمه وما أولاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له جل في علاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبيه ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

   فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى.

أما بعد: وبعدما فوجىء إخوة يوسف بسرقة أخيهم لصواع الملك، لم يعرفوا ماذا يقولون لعزيز مصر ، فاتهموا أخاً له آخر بالسرقة، وفوجىء يوسف بهذا الاتهام، ومع هذا ضبط نفسه أمامهم قال تعالى: (قالوا إن يسرق فقد سرق له أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون) [يوسف: 77]، وعرف الحاضرون أن الأخ الصغير قد سرق صواع الملك، وعرف الحاضرون حكم يوسف والعقوبة التي ستقع عليه؛ سيأخذه عزيز مصر عبداً عنده مقابل ذلك المتاع المسروق، عند ذلك: تذكر الإخوة ما جرى بينهم وبين أبيهم، والموثق الذي أعطوه على أن يعودوا به، فحاولوا محاولة أخيرة مع عزيز مصر: (قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين) [يوسف: 78] لكن يوسف رفض هذا العرض قائلاً : (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون) [يوسف: 79].

عباد الله!

   وعندما يئس الإخوة من استرجاع أخيهم تركوا يوسف، وغادروا قصره، وتشاوروا ماذا يفعلون؟ (فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً قال كبيرهم ألم تعلموا أنَّ أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنَّا للغيب حافظين وأسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون) [يوسف: 80-82] فقرر الأخ الكبير أن يبقى في أرض مصر لا يبرحها ولا يغادرها وأمر إخوته التسعة بأخذ أحمالهم وجمالهم، والعودة إلى أبيهم وإخباره بتفاصيل ما جرى، ولما سمع الأب المفجوع (يعقوب عليه السلام) بما جرى لابنه الصغير، تذكر ما جرى لابنه الآخر (يوسف) قبل سنوات، وقد سجلت الآيات هذا المشهد ورد فعله، قال تعالى: ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم. وتولَّى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين. قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون. يا بنيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف: 83-87].

أيها الأكارم! عندما أمرهم يعقوب بالعودة إلى مصر والبحث فيها عن يوسف وأخيه (اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) فتوجه الإخوة التسعة إلى مصر للمرة الثالثة، ولكنهم ذاهبون هذه المرة بمهمة أكبر وهي مهمة البحث عن يوسف وأخيه، وتنفيذ ما كلفهم به أبوهم، ودخلوا مصر، واجتمعوا معه، وكان بينهم ما عرضته آيات هذا المشهد قال تعالى: ( فلمَّا دخلوا عليه قالوا يا أيُّها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعةٍ مزجاةٍ فأوف لنا الكيل وتصدَّق علينا إنَّ الله يجزي المتصدّقين. قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون. قالوا أءِنَّك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا إنه من يتَّق ويصبر فإنَّ الله لا يُضيعُ أجر المحسنين. قالوا تاللّه لقد ءَاثرك الله علينا وإن كُنَّا لخاطئين. قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيراً وأْتُوني بأهلكم أجمعين).

   ولمَّا كلموا يوسف أحس من كلامهم الانكسار والضعف، ولما استرحموه لمس فيهم مزيداً من المرارة والشكوى:

   (قالوا يا أيُّها العزيز مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ وجئنا ببضاعة مُزجاةٍ فأوف لنا الكيل وتصدَّق علينا إنَّ الله يجزي المتصدّقين) وهم الآن يسترحمون العزيز ويستعطفونه، ويرجونه أن يقبل البضاعة الرديئة وأن يبيعهم بها الحبوب، ولو لم تكن مناسبة (فأوفِ لنا الكيل وتصدَّق علينا إنَّ الله يجزي المتصدّقين).

أيها المسلمون! آن الأوان أن يفاجئهم بالمفاجأة التي لا تخطر لهم على بال، إنهم لا يتوقعون أن الذي يكلمهم هو أخوهم وقد تبوأ من مصر مكاناً عزيزاً، لكن لا بد أن يخبرهم، لتنتهي رحلة آلامهم، فلم يشأ أن يفاجئهم بقوله: أنا يوسف أخوكم، حتى لا يصدمهم، بل ترفق بهم، وذهب بهم إلى الماضي البعيد.. قبل سنوات وسنوات فقال لهم: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذا أنتم تجهلون) عندها سألوا العزيز، وكلهم دهشة ومفاجأة وإثارة وانبهار: (أءنك لأنت يوسف)؟ وأسرع يوسف بالإجابة على سؤالهم ليريح أعصابه: (أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا) نعم إنه يتقلب في منة الله ونعمه وعطاياه، بحيث أوصله ربه إلى منصب الحاكم الأول لمصر.

عباد الله! وفي هذه اللحظة يغتنم يوسف الحصيف الذكي مناسبة لتقرير حقيقة إيمانه، يعلل لإخوته المشدوهين السبب في إنعام الله عليه، وفي إيصاله إلى ما وصل إليه فيقول: (إنَّه من يتق ويصبر فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين) هذه هي القاعدة الإيمانية الربانية التي قررها يوسف عليه السلام والتي علل بها سر توفيقه ونجاحه، لقد تحققت فيه صفات ثلاث أهلته لنيل فضل الله وإنعامه وهي: التقوى والصبر والإحسان، ولم تفارق هذه الصفات الثلاثة يوسف في أي مرحلة من مراحل حياته، فصاحبته هذه الصفات عندما كانت في بيت العزيز ، وعندما راودته امرأة العزيز، وعندما راودته نسوة المدينة، وعندما أدخل السجن وعندما تعامل مع المساجين، وعندما دعاهم إلى الله.. كان في كل هذه المراحل والمواقف تقياً صابراً محسناً، وقد كافأ الله صبره وتقواه وإحسانه أحسن الجزاء في الدنيا، فصار في هذا المنصب الكبير (إنه من يتَّق ويصبر فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين). ثم بعد ذلك يعلن يوسف الكريم عفوه عنهم إلى فتح صفحة جديدة للعلاقة به (لا تثريب عليكم اليوم يغفر لكم وهو أرحم الراحمين) إنه موقف كريم، لا يقفه إلا رجل عظيم محسن كريم، وإنه عفو وتسامح وصفح لا يقدر عليه إلا العظماء.

   كلَّف يوسف إخوته بالعودة إلى الأسرة، ومعهم قميصه لعودة بصر أبيه، ثم القدوم بالجميع إلى مصر، وسار موكب الإخوة عائداً إلى الأسرة، وسارت الخطة كما رسمها يوسف عليه السلام، وفي هذا الجو النفسي الكبير وجد يعقوب ريح يوسف، ولا تعرف كيف وجدها، وكيف شمها، فالله أعلم بحقيقة الحال، وقد أعلنها يعقوب بصراحة للناس الذين معه في المنزل فقال لهم : (إني لأجد ريح يوسف) وبعد قليل تقع المفاجأة، وها هم الركب المسافرون يصلون، ومعهم قميص يوسف، وها هو البشير يلقي قميص يوسف على وجه يعقوب (فلمَّا أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً..) [يوسف: 96] وفي هذا الجو من الفرحة والسرور قال لهم أبوهم عليه السلام: (قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) [يوسف: 96] بعد ذلك أقبل الأبناء على أبيهم معتذرين عن كل ما بدر منهم: (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنَّا كنَّا خاطئين) [يوسف: 97] والآن اعترفوا بخطئهم وذنبهم ومعصيتهم، فأقبلوا على أبيهم معتذرين مقرين، وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم، وأن يطلب من ربه أن يتجاوز عنهم: (استغفر لنا إنَّا كنَّا خاطئين) .

أيها الأكارم ! ها قد اقتربت أحداث قصة يوسف عليه السلام إلى نهايتها، وها هو تأويل رؤيا يوسف قد اقترب، فلما عاد بصر يعقوب إليه، تجهزت الأسرة كلها للارتحال إلى مصر، تنفيذاً لأمر يوسف عليه السلام لإخوته: (وأتوني بأهلكم أجمعين) أخذ يعقوب عليه السلام أهله جميعاً، وسار الموكب الإيماني، ليستقروا جميعاً عند يوسف عزيز مصر، وتخيل كيف سيكون اللقاء بين الابن وأبيه بعد غياب قسري استمر سنوات عديدة؟!

   (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) [يوسف: 99] ؛وهكذا اجتمع شمل الأسرة لكن في مصر، وهكذا استقر الأب والأم والأبناء وعائلاتهم، وبعدما زال عن الوالدين والإخوة وعثاء السفر، واستقروا في مصر حول يوسف عزيز مصر؛ (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً) [يوسف: 100] أكرم يوسف أباه وأمه، فرفعهما وأجلسهما على عرش الملك وكرسي الوزارة، بينما وقف إخوته الأحد عشر أمامه. وخر الجميع له ساجدين: الأبوان والإخوة، سجدوا ليوسف عليه السلام وهو أمامهم، ولم يكن سجود الأبوين والإخوة سجود عبادة، وإنما تكريماً وتحية منهم ليوسف، ولما انتهى مشهد سجودهم بين يديه ، أقبل يوسف على أبيه قائلاً: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً) [يوسف: 100] تذكر يوسف الآن الرؤيا وما قاله لأبيه، وما قال أبوه له، ها هي الشمس، وها هو القمر، وها هم إخوته الكواكب الأحد عشر.

عباد الله!وبقيت لقطة الختام تخبر عن يوسف عليه السلام: (ربِّ ءَاتيتني من المُلك وعلَّمتني من تأويل الأحاديث فاطر السَّموات والأرض أنت وليّ في الدنيا والآخرة توفَّني مُسلماً وألحقني بالصَّالحين) [يوسف: 101] هذا الدعاء يختصر أهم الدروس المستخلصة منها، وكأن يوسف عليه السلام في دعائه هذا يعلم كل مسلم أن يتمثل هذا الدعاء، وأن يجعله هدفاً له، وأن يختم به حياته على هذه الأرض.

أيها المسلمون! وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء، واجتماع الأهل ولمة الإخوان، ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه الله، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه، إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير.

  أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث