الوقفة الأولى:

لم يذكر المصنف اسماً لهذا الباب وإنما جعله باسم الكتاب نفسه (كتاب التوحيد) ثم ذكر مجموعة من الآيات الدالة على تقرير التوحيد على الناس افتتحها بقوله تعالى:)وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون).

وأراد –رحمه الله- من هذا الباب أن يقرر التوحيد بذكر هذه المجموعة من الآيات مع حديث معاذ رضي الله عنه .

فهذه النصوص وغيرها تفيد أن أول واجب على العبد المكلف هو توحيد الله تعالى، فيجب على المكلف أن يؤمن بهذا التوحيد إيماناً عميقاً فهو أول وأهم الواجبات التي تبنى عليها سائر أمور الحياة.

وإذا اعتقد المسلم هذا الاعتقاد وسار عليه فلا شك أن لهذا الاعتقاد آثاراً عليه في الدنيا والآخرة، فمن آثاره في الدنيا: الحياة المطمئنة وفي الآخرة: الوصول إلى الجنة، وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى .

ومن مات وكان آخر كلامه )لا إله إلا الله) - كما صح في الحديث - دخل الجنة وفي رواية: (حرم وجهه على النار) .

الوقفة الثانية :قولـه تعالى:]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

]وما خلقت): الخلق: هو الإيجاد .

الجن: من الجنة وهي الاستتار، فالجن خلق مستورون لا يراهم الناس، وهم يرون الناس، ولكنهم أيضاً مكلفون .

الإنس: من الاستئناس فيأنس بعضهم ببعض، ولذلك سموا بهذا الاسم .

والطائفة من الناس سواء في زمان أو في مكان يسمون : إنساً.

الطاغوت: في الأصل هو الشيطان ويُعَرفُهُ ابن القيم –رحمه الله – بقوله: (ما جاوز العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع).

(قضى): أوجب وفرض.

(تعالوا): هلموا وأقبلوا .

(أتل): أقرأ وأقص .

الوقفة الثالثة :

عرف شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- العبادة بأنها: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) .

فهي تعم كل شيء مما يحبُّهُ الله جل وعلا سواء كان أمراً كبيراً كالتوحيد أو ما هو أقل من ذلك، وهذا يشير إلى أمور:

الأول: شمولية العبادة لأفعال الإنسان وأقواله، وهذا يفترق فيه ديننا الإسلامي الحنيف عن غيره، فالإسلام لا يفصل بين علاقة الإنسان بالله جل وعلا وبين سلوكياته الأخرى فهي كلها من عبادة الله جل وعلا .

الثاني: يبين لنا المفهوم الخاطئ الذي يظنه بعض الناس من الفصل بين علاقة الإنسان بربه تعالى وبين أمور الحياة كلها ويظن أن الدين والعبادة مقتصرة على أركان الإسلام، أما الباقي فليس من شأن العبادة، وهذا مفهوم خاطئ فالصحيح كما ذكر في الأمر الأول أن العبادة شاملة لحياة الإنسان سواء كانت هذه الحياة حياة فردية بمعنى سلوك الإنسان الفردي أو السلوك الجماعي الذي هو سلوك لنظام حياة الناس بعضهم مع بعض ومنها: الحياة المالية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية كلها داخلة في العبادة في دين الله عز وجل .

وجاء توضيح هذا المعنى في نصوص كثيرة منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث الصحابة عن هذا المعنى فقال عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة) فقالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون لـه فيها أجر ؟ قال: (أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).

فالمقصود أن المسلم بهذا المفهوم يحتسب الأجر من الله تعالى في كل عمل يقوم فيه في هذه الحياة وهذا من فضل الله عز وجل وهذه هي العبادة.

والفرق بين العبادة وتوحيد العبادة أن توحيد العبادة هو توجيه هذه العبادة لله عز وجل والخضوع لـه سبحانه وتعالى، فإذا أرادها لله وغيره أخلّ بهذا التوحيد أما العبادة فهي الفعل نفسه.

الوقفة الرابعة :

قولـه تعالى: ]وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) .

(قضى) هنا بمعنى أوجب وألزم وفرض .

والقضاء بالنسبة لله تعالى يأتي بمعنيين:

الأول: القضاء الشرعي بمعنى شرع هذا الأمر .

الثاني: الكوني القدري .

والفرق بينهما: أن القضاء الكوني القدري متحقق الوقوع لا محالة، مثل قضاء الله سبحانه وتعالى بأن السموات سبع وبأن الشمس ساطعة تطلع شرقاً وتغيب غرباً .

وأما القضاء الشرعي فقد يقع وقد لا يقع، مثل حكم الله سبحانه وتعالى بأن الربا حرام، ومع ذلك نجد بعض الناس يتعامل به مع أنه محرم . فهو راجع إلى استجابة العبد.

الوقفة الخامسة :

قوله تعالى: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) .

هذه الآية يسميها بعض أهل العلم بآية الوصايا؛ لأنها اشتملت والآية التي بعدها على عشر وصايا .

قال الله سبحانه وتعالى فيها: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم)، يقول للرسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للناس: أقبلوا لكي أقرأ عليكم ما حرمه ربكم جل وعلا لأجل أن تجتنبوه .

وأشد هذه المحرمات الشرك بالله جل وعلا وهذا موضع الشاهد . وهو هنا يعم الشرك الأكبر المخرج عن الملة والشرك الأصغر ولو كان يسيراً .

فهذا أعظم المحرمات وأشد المنهيات وأهم ما يجب على الإنسان الحذر منه.

ثم ذكر الله سبحانه وتعالى مجموعة وصايا في هذه الآية التي تشمل الإحسان إلى الوالدين، وعدم قتل الأولاد، والابتعاد عن الفواحش، وكذلك تحريم قتل النفس التي حَرَّمها الله إلا بالحق، وعدم قرب مال اليتيم الذي مات أبوه وخلف لـه شيئاً من المال، ووجوب إيفاء الكيل والميزان، والبعد عن بخس الناس حقوقهم العدل في القول، والوفاء بالعهد، وخَتَمَ الله هذه الوصايا بالسير على الطريق المستقيم، بأن يجب على المسلم أن يسير على المنهج الذي أراده الله تعالى وبعث به محمداً صلى الله عليه وسلم .

والشاهد من هذه الآية:

بيان الله سبحانه وتعالى أن أعظم المحرمات هو الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ فمن لازم تحقيق العبودية لله تعالى الحذر من هذا الشرك.

الوقفة السادسة :

الشرك نوعان:

الأول: شرك مخرج عن الملة وهو الشرك الأكبر وهو أنواع مثل: صرف العبادة لغير الله، أو التوسل بغير الله تعالى قاصداً هذه العبادة بهذا التوسل . وكعبادة القبور والأشجار والأصنام وغيرها.

الثاني: شرك أصغر، وذلك مثل يسير الرياء وسمي أصغر بالنسبة للأكبر، وإلا فهو من أكبر الكبائر والضابط في هذا الشرك أنه وسيلة إلى الشرك الأكبر مثل: يسير الرياء والفرق بينهما أن الأكبر يخرج صاحبه من الملة، وهو خالد مخلد في النار، ويعامل في الدنيا معاملة الكافر، أما الأصغر فليس مخرجاً من الملة وتحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له أو عذبه بقدر معصيته، ويعامل في الدنيا معاملة المسلمين.

الوقفة السابعة :

ذكر المصنف - رحمه الله - حديث معاذ رضي الله عنه .

ومعاذ بن جبل رضي الله عنه من فقهاء الصحابة، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن ليعلمهم ويرشدهم ويدعوهم إلى هذا الدين .

-       يقول معاذ (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار) وهذا فيه دلالة على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث يركب هذه الدابة ويردف معه شخصاً آخر من الصحابة .

-       فقال لي : (يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد وحق العباد على الله ؟)

هذا فيه إشارة إلى استغلال الفرص في التربية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يستغل هذه الفرصة مع معاذ رضي الله عنه ليوصل له أعظم المهمات في هذه الدنيا، فيوجه لـه هذا السؤال : "أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله"؟ .

يقول: قلت: الله ورسوله أعلم، فمعاذ هنا نسب العلم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم تواضعاً منه وطلباً للفائدة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يسأله هذا السؤال إلا ليوصل له فائدة مهمة كبيرة، فقال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) .

قال هنا: (حق) والحق يطلق على الواجب والمتأكد على المسلم أن يقوم به، فحق الله يعني ما يجب لله جل وعلا على عباده وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً فيتوجهوا بأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والباطنة لـه سبحانه وتعالى، وأن يمشوا على المنهاج الذي أراده لله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) .

-       قال: (وحق العباد على الله) هنا سؤال، هل للعباد حق على الله  ؟

لا ليس للعباد حق على الله، إنما هذا من باب التفضل والإكرام والمنة والنعمة من الله سبحانه وتعالى أن من يقوم بعبادة الله وعدم الإشراك به يستحق أن يمنح بأن لا يعذبه الله في الآخرة، فلا يعذب من لا يشرك به شيئاً، وهذه منحة من الله سبحانه وتعالى وجائزة عظيمة بل أعظم جائزة يستحقها المسلم بهذه العبادة .

فوجه الشاهد من هذا الحديث: هو التأكيد على حق الله جل وعلا، وهذا الحق هو عبادة الله وعدم الإشراك به .

-       قال معاذ: "أفلا أبشر الناس؟" يستأذن من النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تبشرهم فيتكلوا عن العمل، ولكن معاذاً رضي الله عنه أخبر بهذا الحديث عند موته تأثماً بعدما خشي من الإثم بعدم البلاغ وعدم إيصال هذا العلم إلى الناس .

الوقفة السابعة :

وخلاصة ما ورد في هذا الباب من تقرير التوحيد هو:

أولاً: أن الحكمة من خلق الإنسان والجن هي عبادة الله سبحانه وتعالى.

ثانياً: أن هذه الحكمة أيضاً هي الحكمة من إرسال الرسل.

الثالث: أن هذه الحكمة التي من أجلها خلق الناس وأرسل الرسل هي أعظم الواجبات على الإنسان في هذه الدنيا .

رابعاً: التلازم بين عبادة الله جل وعلا وترك عبادة غيره، فمن لازمها اجتناب الطاغوت بمعنى عدم الشرك بالله تعالى وعدم صرف النية في هذه الأعمال لغير الله جل وعلا .

خامساً: معرفة أن لله سبحانه وتعالى حقاً على الناس، هذا الحق يتمثل في عبوديته الله جل وعلا وعدم الشرك به سبحانه وتعالى .

سادساً: أن من قام بحق الله سبحانه وتعالى فله النجاة يوم القيامة، وهذا تفضل من الله سبحانه وتعالى .

بهذه النقاط الست جمع ما أراده المصنف –رحمه الله- من تقرير هذا الموضوع الذي افتتح به هذا الكتاب .



بحث عن بحث