الوقفة الأولى:

في شرح بعض كلمات هذا الباب منها:

(سبيلي): أي طريقي ودعوتي، والمشار إليه هو النبي صلى الله عليه وسلم  .

(بصيرة): أي على علم بها أدعوا إليه.

(كرائم الأموال): أحسن المال وأنفعه وأكثره ثمناً.

(الراية): العَلَم الذي يُتخذ علامة للجيش.

(يدوكون): أي يخوضون ويتحدثون.

(أنفذ على رسلك): أي اذهب على مهلك من غير عجلة.

(حمر النعم): هي الإبل ذات اللون الأحمر، وهي أثمن الإبل عند العرب في ذلك الوقت.

الوقفة الثانية:

أورد المصنف - رحمه الله – هذا الباب بعد أن بدأ بذكر التوحيد وفضله وما يوجب الخوف من ضده، فناسب هنا أن يذكر الدعوة إليه، فمن عرف ذلك فلا بد من دعوة الناس إلى هذا الأمر الهام، ولهذا قال سبحانه وتعالى في سورة العصر:( وَالْعَصْرِ ﴿1﴾ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿2﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ   ) .

الوقفة الثالثة:

في الآية الأولى التي أوردها المصنف إشارة إلى أهمية الدعوة إلى التوحيد، فيقول سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للناس عامة أن طريقتي وسنتي وهي التي أدعوا بها إلى شهادة ألا إله إلا الله وإفراده بالعبادة هي دعوةٌ على علم وبصيرة ويقين بصحتها، وهذه طريقتي وطريقة من اتبعني، وأننا ننزه الله سبحانه من أن يكون لـه شريك في العبادة، كما ننـزهه من كل ما ينافي التوحيد.

ومن هذه الآية يمكن استخلاص عدة فوائد منها:

1) أن تكون دعوة المسلم لغيره خالصة لله عز وجل، فإن كانت لحظ دنيوي فلا تقبل؛ لأن من شرط صحة العمل الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأن تكون وفق ما جاء به الشرع فلا يدعى إلى بدعة أو أمر لم يأتِ به الشرع.

2) أن الدعوة إلى التوحيد لا تكون إلا بعلم وفهم من الداعية، فلو بدأ بالدعوة قبل العلم فسيوقع غيره بالجهل، لهذا قال ابن تيمية - رحمه الله - : ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به وفيما ينهى عنه   .

3) فضل الدعوة إلى توحيد الله سبحانه والإخلاص لـه فيها فهي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم  والصحابة رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الصالحين.

الوقفة الرابعة:

لقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم  معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن سنة 10هـ ومكث فيها والياً وقاضياً حتى قدم في خلافة أبي بكررضي الله عنه، وذهب إلى الشام ومات هناك. وأوصاه صلى الله عليه وسلم  بعدة وصايا في هذا الحديث العظيم الجامع، الذي استند عليه كثير من العلماء في تقرير مسائل عقدية وفقهية ومن تلك الفوائد التي اشتمل عليها هذا الحديث:

1) أن شهادة ألا إله إلا الله وتوحيده سبحانه هي أوجب الواجبات وأولها والمدخل إلى الإسلام، ولا يبدأ إلا بها كما في دعوة الأنبياء كافة، قال تبارك وتعالى: ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فمن لم يوحد الله وأشرك معه فهو كافر فلا تقبل منه العبادات، قال ابن تيمية - رحمه الله - : وقد عُلِم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم  واتفقت الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبذلك يصير الكافر مسلماً، وإذا لم يتكلم مع القدرة فهو كافر.

2) أن الداعية ينبغي أن يكون على علم بحال المدعو، فدعوة من عنده علم ليس كدعوة الجاهل، فالأول من يجادل بالأدلة فيحتاج لمقارعة ذلك بالحجة والبرهان بالتي هي أحسن، ويعرف قبل ذلك الشبهة التي يطرحونها ليجيب عليها.

3) البدأ بالدعوة بالأهم فالأهم، فلا تأمر الكافر بالصلاة حتى يدخل في الإسلام، وكذلك لا تأمر شخصاً أن يعفي لحيته وهو لا يصلي، بل يبدأ الداعي بالتدرج مقدماً الأهم على المهم.

4) أنه لا بد لدخول الإسلام من النطق بالشهادتين.

5) أن من امتنع من أداء الزكاة فيجب على ولي الأمر أن يخرجها منه جبراً عنه، ولا تعطى إلا للمحتاج.

6) أنه لا يجوز للإمام أو نائبه الذي يجبي الزكاة أن يأخذ أنفس الأموال من المزكي ليعطيه للفقير، بل يأخذ من الوسط، إلا إذا طابت بذلك نفس المزكي وأراد زيادة الخير.

7) تحريم الظلم بجميع صوره في الإسلام، وعظم خطر دعوة المظلوم على الظالم فدعوته مستجابة ولو كان المظلوم فاسقاً أو كافراً.

الوقفة الخامسة:

المستقرئ للنصوص الشرعية في الدعوة إلى الله يجد أنها كثيراً ما تشير إلى التزام الداعي بالخلق وحسن العرض في الدعوة، ومن هذه النصوص قول الحق سبحانه: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )  ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم  لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن : (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا) .

ولما بال الأعرابي في المسجد ونهره الناس وأغلظوا عليه قال صلى الله عليه وسلم  : (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) .

ثم إن الناظر في الواقع الحالي يجد أن حسن التعامل ولطف المعشر له أثر كبير في قبول الدعوة، ولذا نجد أن كثيراً من البلدان الإسلامية دخل أهلها في الإسلام دون حرب بل بحسن الخلق والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولعل بعض من يكون فظاً غليظاً في الدعوة لا يجد قبولاً، ولكن الداعي حينما يستشعر أهمية الدعوة سيوطن نفسه على الحلم وتحمل الأذى والصبر وكظم الغيظ.

الوقفة السادسة:

إن الداعي إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة والناهي عن البدع والشركيات، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قد يعتريه بعض الفتور والملل، لا سيما إن لم تظهر الثمرات العاجلة لعمله، ولعل ورود بعض النصوص الشرعية التي تثني على الداعي وتبين أجره، يسليه ويزيد من همته وعمله ومن هذه الفضائل:

1) دعاء النبي صلى الله عليه وسلم  للداعي فقد جاء في الحديث المتواتر: (نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فبلّغها، فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)  ومعنى (نضر الله): أي دعاء له بالنعمة والنضارة والنور.

2) الثواب الكبير لمن اهتدى على يده شخص كما في حديث علي رضي الله عنه الذي ذكره المصنف.

3) استمرار أجر الداعي حتى بعد موته سواء أكانت دعوته بنشر علم أو بتعليم الناس، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .

4) روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر يصلون على معلم الناس الخير).

الوقفة السابعة:

ذكر المصنف - رحمه الله – حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عام خبير سنة 7هـ حيث كان هناك عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم  وبين اليهود على ترك القتال، ولكن اليهود نقضوا هذا العهد حينما حضر كفار قريش لغزوة الأحزاب، ثم لما كانوا كذلك لم يكن لهم صلح فغزا النبي صلى الله عليه وسلم  خيبراً - المدينة التي كان يسكنها اليهود -، فلما نزل قريباً منهم قال النبي صلى الله عليه وسلم  هذا الحديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه).

وفي هذا الحديث جملة من الفوائد منها:

1) إثبات صفة المحبة لله عز وجل إثباتاً يليق بالله عز وجل لا يشابهه أحد من الخلق، ونثبت هذه الصفة من غير تعطيل لها ولا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه على حد قوله سبحانه: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

2) فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأنه تام الاتباع ومحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم  وأن الله ورسولهصلى الله عليه وسلم  يحبانه، وهذا الحديث جاء في فضيلة علي رضي الله عنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

3) حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الدعوة، والنصح لأمته وأن يبدأ الداعي بالأهم فالأهم كما سبق.

4) حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الخير، فقد باتوا وهم يتحدثون من سيعطى راية الحرب، وأيهم سيأخذها رغم المسؤولية الكبيرة على حاملها والخطر الذي قد يواجهه أكثر من غيره، ولذا جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه في هذا الموطن: (ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ) رغبة في أخذ هذا الفضل وهو محبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم  له.

5) أن النبي صلى الله عليه وسلم  أخبرهم بفتح خيبر وهذا علَم من أعلام النبوة، أطلعه الله سبحانه وتعالى على هذا الأمر الغيبي، كما أن شفاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يد النبي صلى الله عليه وسلم  بأمر الله عز وجل من الآيات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم  في رسالته.

6) رفق النبي صلى الله عليه وسلم  وحسن خلقه وذلك بتفقد أصحابه وألا يشق عليهم في السير المتواصل السريع الذي يرهقهم.

7) مشروعية الدعوة إلى الله عز وجل قبل القتال، فهدف المسلم والداعية إيصال الحق للناس عامة وأن يدخلوا الإسلام، لا الطمع الدنيوي وأخذ الأموال والغنائم. ومن هذا يتبين أن القتال ليس مقصوداً لذاته.



بحث عن بحث